الذي تحق له العبادة. والحمد يجري مجرى الشكر، إلا أنه يستعمل في مسدي الإحسان، وفي من رضيت أفعاله وإن لم يكن منه إحسان، فيقال: حمدت فلاناً على اصطناعه لي، وحمدته على براعته وفضله؛ والشكر لا يستعمل إلا فيمن يكون منه إسداء معروفٍ وأخذٌ بإحسان. والمعنى أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة، على تخلص خراش، وبعض الشر أخف من الآخر. كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق، فرأى قتل أحدهما أهون. وهذا الكلام، أعني وبعض الشر أهون من بعض رمى به مرمى الأمثال. فإن قال قائلٌ: ليس في الشر هين، وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفةٍ زاد أحدهما على الآخر؛ لا تقول: زيدٌ أفضل من عمرٍو، إلا وقد اشتركا في الفضل، فكيف جاز أن يقول: وبعض الشر أهون من بعض، ولا هين في الشر؟ قلت: إن للشر مراتب ودرجاتٍ، فإذا جئت إلى آحادها، وقد تصورت جملها، ورتب الآحاد فيها، وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حالٌ في الخفة أو الثقل، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أن يوصف شيءٌ منه بأنه أهون من غيره. ولا يشبه هذا قوله عز وجل:" أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً "؛ لأنك إذا تصورت حال أهل الجنة مع أهل النار لم تجد ثم مراتب متقاربةً يترقى الواصف في درجها، ويتصور اشتراكهم فيها، إذ لم يكن ثم مشاركةٌ البتة بوجهٍ من الوجوه. فالجامع بين الآية وبين هذا وأشباهه خارجٌ عن الطريقة. والصواب أن يقال في الآية: إن المعنى: أصحاب الجنة يومئذٍ أحسن حالاً وأعظم شاناً، وأعلى درجةً ومكاناً، وخيرٌ مستقر وأفضل مقيلا، من أن يشبه بشيءٍ، أو يحد بوصفٍ، فحذف منه ما حذف. وعلى هذا يحمل قول المسلمين: الله أكبر، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سمع الكفار يقولون: اعل هبل! قال: " الله أعلى وأجل! ".
فوالله ما أنسى قتيلا رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرض
تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلا، كأنه قال: ما أنسى قتيلاً بجانب قوسي رزيته. وموضع رزيته وبجانب قوسي جميعاً صفة للقتيل؛ وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما. وقوله ما مشيت ما مع الفعل في تقدير مصدر حذف اسم الزمان معه، كأنه قال: مدة مشيي على الأرض. وفي الكلام نية الشرط والجزاء، كأنه قال: لا أنسى قتيلاً رزيته إن مشيت على الأرض، ومعناه إن بقيت حياً، فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل، لأن ما مشيت على الأرض في