دعا الطير حتى أقبلت من ضرية ... دواعي دم مهراقه غير بارح
لم يرض بما ذكره في البيت المتقدم من التذكير بدماء المقتولين حتى بسط القول فيه وجنحه بأن قال: دعا دواعي دمائهم طيور الأماكن النائية والجبال المطلة، حتى أقبلت من ضرية وهو اسم بلاد تشتمل على جبال عوافي سباعها وطيورها تستدل بها، فوقعت عليها تأكل من جيفها. ويجوز أن يريد بالدواعي الرياح الذاهبة في الأقطار. وقوله مهراقه غير بارح أي هو مصبوب موضعه لم يحل ولم يزل.
أعاد المعنى تفظيعاً، ويجوز أن يريد بقوله مهراقه الموضع المصبوب فيه الدم، كأنه يستشهد به فقال: هو غير بارح. وقال مهراقه والأصل مهراق فيه. وإنما قلنا هذا ليكون بين هذا وبين قوله دم ناقع أو جاسد غير ما صح فصل. والكلام يشتمل على ما يطرى المصيبة ويهيج الفجيعة، ويصور مصرع القوم بما يأتيه من عوافي الطير. وفيه بعث شديد وحض بليغ على طلب الدم.
عسى طيئ من طيئ بعد هذه ... ستطفى غلات الكلى والجوانح
عسى لفظه ضعت للترجي والتأميل، إلا أنها تؤذن بأن الفعل مستقبل مطموع فيه، فيجب أن يستأنى له، وإن كانت من أفعال المقاربة. وبهذا يبين عن لفظة كاد لأن كاد لمشارفة الفعل فهو يلي الفعل بنفسه تقول كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه قال ستطفئ غلات الكلى والجوانح. لما كان من شرط عسى أن يجيء بعده أن إيذاناً بالاستقبال جعل هذا بدل أن السين، لأنه أشهر في الدلالة على الاستقبال، وإنما قال عسى طيئ من طيئ لأن الجذاب الذي أشار إليه والقتال، كان بين بطنين منهما. وقوله بعد هذه أشار إلى الحالة الحاضرة، الجامعة لكل ما ذكره. والجوانح: جمع جانحة، وهي الضلوع القصار. والمعنى: المطموع فيه من أولياء الدم أن يطلبوا الثأر في المستقبل، وإن كانوا أخروه إلى هذه الغاية، فتسكن نفوس وتبرد قلوب. وقد آلم بهذا الكلام كل الإيلام، لما ختم به كلامه المتقدم.
وأبلغ من هذا قول الآخر، وهو في طريقته:
وإني لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء