حيل بينها وبين طفل لها، وهي بعيدة عنه بنفسها، ورئمانها - أي عطفها - متوفر عليه. قال: وكذلك كنت في انقطاعي بالنفس، وتوفري بالقلب. شبه نفسه بالعازبة، والمهجورة بالطفل.
فإن قيل: إنمت قال: وإني وذاك الهجر، فيقتضى كلامه أن يكون التشبيه متناولاً له ولهجره؟ قلت: يجوز أن يريد إنى مع ذاك الهجر، وهذا كما يقال: إن الرجال وأعضادها، أي مقرونان؛ وإن النساء وأعجازها، أي مقرونان، لأن المراد مع أعضادها ومع أعجازها.
ويجوز أن يكون أراد بالهجر المهجور، لأن المصدر يوسف به؛ ويجوز أن يكون ذكر الهجر لما كان من سببها، والمراد تلك. وقوله لو تعلمينه الضمير منه يعود إلى الهجر، والمراد ما ذكرته. والعازبة: البعيدة. ويقال: عزب عنه عقله. والعازب أيضاً، الكلأ البعيد المطلب.
وقال آخر:
ما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا
خليلي إلا تبكيا لي أستعن ... خليلاً إذا أفنيت دمعي بكي ليا
كأن لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا
قوله ما أحدث النأي يصف أن الوجد الذي به قد صار غراماً، فلا البعد منها يحدث سلوا عنها، والاجتماع معها يوجب ملالاً منها، لكنه في الحالتين. جميعاً على حد واحد من تباريح الهوى. ثم أقبل على صاحبين له يخالفهما فطلب منهما إسعاده في البكاء، وأنهما متى لم يسعفا له بمطلوبه استعان بغيرهما، حتى إذا نزف دمعه بكى له نائباً عنه.
وقوله كأن لم يكن بين شبه البين إذا تعقبه المواصلة أو الاجتماع بما لم يكن، لكنه زعم أنه يائس لا يظن تسهل التلاقي بينه وبين محبوبه واقعاً. وقوله ولا طول اجتماع ارتفع بفعل مضمر، كأنه قال: أحدث طول اجتماع.
وقوله خليلي غلا تبكيا لي، تألم وتشك من زمانه، حين لم يكن له من يساعده في شدة أو رخاء، وبتحمل عنه ثقلاً في مسرة أو مضرة.