وكأنه أقسم لها أو دعا لها بأنه يبقى على العهد لها مدة دوام مواصلتها وبقائها على المصافاة والإيثار له، وأنه يوجب من إعظامها والثناء عليها، ومكافأتها بالحسنى فيما تسدى إليه وتوليه ما ينتفي عنه سمة التقصير والإقصار. ووجه الدعاء لها استعطافها وترقيق قلبها، ويكون كالتشبيب من السائل.
وقوله فلا تتركي نفسي شعاعا، فالشعاع: المنتشر، وكذلك الشع والفعل منه شع. ويقال: تطاير القوم شعاعاً، أي متفرقين. فيقول: أحفظي نفسي عن الانتشار والزوال، فإنها شارفت الذوب والسيلان وجداً بك، وشافهت التلف والبوار شوقاً إليك. ثم قال: وإني مستحي منك على البعد، إعظاماً لك، وتهيباً منك، حتى كلأن لك رقيباً معي في كل حال، فأتفف عن المنكرات، وأتنزه عن ذميم المقالات، فكوني لي على ما توجبه صورتي، وتقتضيه قصتي. ومثل هذا قول الآخر:
وإني لأستحييك والخرق بيننا ... مخافة أن تلقي أخا لي لائما
وقال آخر:
تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي
أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا كبدا ممن يحبك بعدي
الشجن: الحاجة، والجميع الأشجان والشجون. قال:
والنفس شتى شجونها
وموضع وحدي نصب على المصدر، وهو موضوع موضع الإيحاد. يقول: ارتحل أصحابي ولم ينلهم من الوجد ما نالني، وفي نفوس الناس حاجات وقد أوحدت نفسي بحاجة إيحاداً. ثم أقبل على المحبوب مفسراً لشجنه الذي تفرد به، فقال أحبكم مدة حياتي، وإذا مت فواكبدا ممن يلي حبكم بعدي. وهذا تحسر في إثر ما يفوته من الهوى إذا فارق الدنيا. ويروى: من ذا يحبكم بعدي.