فعيناي طوراص تغرقان من البكا ... فأعشى وحيناً تحسران فأبصر
يقول: وقفت بدار الأحبة فتوهمت آياتها، ثم عرفتها فتمثل لي من كان بها، وتطرى ما كان دار بيني وبينها، فأغرورقت عيناي من الدمع تحسراً وتوجعاً، وبقيت إذا نظرت إلى الدار كأني أنظر من وراء زجاجة فلا أتبين الآثار، وإذا انهملتا بما فيهما عدت في صحة الإدراك بهما إلى ما كنت عليه من قبل. وقد مر القول في حقيقة النظر.
فأما تحسران فيجوز أن يكون من قولهم: حسر البحر، إذا نضب الماء عن ساحله؛ ويجوز أن يكون من حسرت القناع، ويكون على هذا مفعوله محذوفاً. والأول أحسن. ومن الثاني قولهم: امرأة حسنة المحاسر، كما يقال حسنة المعاري. وتلخيص البيت الأول: كأني من فرط الصبابة أنظر إلى الدار من وراء زجاجة. والطور: التارة. ويقال: الناس أطوار، أي على أحوال شتى.
وقال آخر
فما شنتا خرقاء واهية الكلى ... سقى بهما ساق فلم يتبللا
بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توهمت ربعاً أو تذكرت منزلا
الخرقاء: التي لا رفق لها في الأعمال ولا بصيرة. والشنة، أراد بها هنا الدلو الخلق، وهي السقاء البالي في الأصل. ويقال: لقطران الماء من الشنة شيئاً بعد شيء: الشنين، ثم يستعمل في الدمع. قال:
يا من لدمع دائم الشنين
ولم يرض بأن جعل الدلو خلقاً حتى يجعلها لامرأة لا تحسن عملاً من خرز وغيره، فكانت تصلحها، ثم جعل سقى الإبل بها قبل تهللها وانسداد خرزها وثقبها. فيقول: ما دلوان هذه صفتهما بأشد إضاعة للماء من عينيك للدمع كلما توهمت دار الحبيب وهي مأهولة، أو تذكرت منزلاً من منازل سفرها وهي منتجعة.