للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها قوله: جاءته نشابة فذبحته. جعل الشهادة في سبيل الله عقوبة. وهذه الواقعة كانت في هذه السنة، وابن البوشنجي استشهد في سنة ست وثمانين وخمسمائة بعد أخذ الفرنج عكا من السلطان. ومن العجائب في هذه الواقعة أنني اجتمعت بشيخ دار الحديث المظفريّة بالموصل في سنة خمس وستمائة، وجرت مذاكرة في غزوات صلاح الدين، فقال: حضرت معه في مرج عكا والفرنج قد أخذوا عكا، فبينما أنا قاعد في سوق العسكر وإذا شابّ من أحسن الشباب قد جلس إلى جانبي، فذكرته فوجدته فاضلًا فصيحًا من أهل بغداد من بيت البوشنجي، قلت: فما اللقب؟ قال: يَقْبح بي أن ألقب نفسي، فأقسمت عليه فقال: يقال: الرشيد. فقلت: وما الذي جاء بك إلى هاهنا؟ فقًال: سمعت أن السلطان يعرف أقدار أولاد الناس ويحسن إليهم، ورغبت أيضًا في الشهادة، فأتيت إليه فأحسن إلىَّ وأكرمني وأعطاني، ثم قال: أخاف أن تنقضي هذه الغزوات وما تحصل لي شهادة، فأسأل الله تعالى أن يرزقني الشهادة، فقد تاقت نفسي إليها. قال: فدعوت الله أن يختار له ما فيه الخيرة، ثم قلت: يا سيّدي أنشدني شيئًا من شعرك، فقال: نعم. وأنشد هذه الأبيات:

قِفوا فاسألوا عن حال قلبي وضَعْفِه … فقد زاده الشوق الأسى فوق ضعفه

وقولوا لمن أجرى الشِفاءَ بوَصله … مريضك قد أشفي على الموت فاشْفِه

أخو سقم أجفاه إخفاؤه الهوى … نحولا ومَن يخفي المحبّةَ تُجفِه

وما شغفي بالدار إلّا لأهلها … وما جزعى بالجزع إلا لخشفِه

يَعِزُّ على قلبي المقام بذِي النقا … إذا لم يقم ذاك الغزالُ بحقْفِه

وما أمّ رِيم أشفقت منه فالتجت … إلى شامخ نادر من نحو كهفه

تَغارُ عليه من نسيم وَمرّة … وتُشْفِقُ من إيماض برقٍ وخطفِه

بأوجع مني قوم بانوا ورُبّما … يوجع يوم البَين إلفٌ لإلفِه

ثم قام من عندي باكيًا وقصد الفرنج فاستشهد، رحمه الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>