للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان يوم الأحد الثانى عشر من جمادى الآخرة، وصل من البلد كتب يقولون فيها: "إنا قد [تبايعنا] (١) على الموت، فلا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلّم هذا البلد ونحن أحياء، فانظروا أنتم كيف تصنعون في شغل العدوّ عنا، ولا تخضعوا لهؤلاء الملاعين، وبالله المستعان. فلما سمع السلطان هذا الخبر حطّ منديله على عينيه وبكى بكاء شديدًا. وقال إنا لله وإنا إليه راجعون. وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من جمادى الآخرة قدمَ الأمير سابق الدين صاحب شيزر. وفى يوم الأربعاء خامس عشره قدم بدر الدين دُلدرم ومعه تركمان كثير، وكان السلطان قد أنفذ إليه ذهباً كثيراً أنفق فيهم. وقدم في يوم الخميس سادس عشر أسد الدين شيركوه (٢)، ومع هذا اشتد الحال على أهل البلد، فأرسل السلطان إليهم أن يخرجوا من البلد في البحر، ولا يتأخروا من هذه الليلة، فتشاغل كثير منهم في جمع الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن المسير في تلك الليلة. فما أصبح الخبر إلا عند الإفرنج من مملوكين صغيرين، سمعا بما رسم به السلطان، فهربا إليهم، فأخبراهم بذلك، فاحتفظوا على البحر احتفاظاً عظيماً، فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة ولا خرج منها شيء بالكلية. فلما أصبح السلطان بعث إلى ملوك الإفرنج يطلب منهم الأمان لأهل البلد، على أن يُطلق عدتهم من الأسرى الذين تحت يده من النصارى، ويزيدهم على ذلك صليب الصلبوت (٣). فأبوا إلا أن يُطلق كل أسير تحت يده، ويُعيد إليهم جميع البلاد الساحلية التى أخذت منهم، وبيت المقدس. فأبى السلطان من ذلك. وترددت المراسلات في ذلك والحصار يتزايد على أسوار البلد، وقد تهدّم شيء كثير منها، وكلما يتهدم شيء يُعيد المسلمون عوضَه، وصَبروا على ذلك صبراً عظيماً.

ولما كان يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة، صالحهم أهل البلد على أنهم يُسلمون البلد وجميع ما فيه من العدد والآلات والمراكب، ومائتى ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معيّنين، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونساءهم، وضمنوا للمركيس اللعين بعشرة آلاف دينار لأنه كان واسطةً، ولأصحابه أربعة


(١) "بايعنا" كذا في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص ١٦٩.
(٢) النوادر السلطانية، ص ١٦٩ - ١٧٠.
(٣) البداية والنهاية، جـ ١٢، ص ٣٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>