للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال قاضي القضاة (١): واتفق أني كنتُ في القلب، ففرّ القلب فرارًا عظيمًا، فنويت التحيز إلى الميسرة، وكانت أقرب إلىَّ، فوصلتها وقد انكسرت كسرةً عظيمةً، ثم نويت التحيز إلى الميمنة، فرأيتها وقد فرت أشدّ فرارًا من الكل، ثم نويت التحيّز إلى [طُلُب] (٢) السلطان، وكان ردْءًا (٣) للأطلاب كلها كما جرتَ عادته بذلك، فأتيتُه ولم يبق معه إلا سبعة عشر مقاتلًا لا غير، لكن الأعلام كلها باقية والكُوساتُ تدق لا تفتر. ثم وقف الإفرنج خوفًا من الكمين، وقاتلوا وهم واقفون، ثم حملوا (٤) حملة ثانية، ففروا (٥) وهم يقاتلون في فرارهم، ثم وقفوا وحملوا حملة ثالثة حتى بلغوا إلى [رؤوس] (٦) روابي هناك وأعالي تلول، ووقفوا هناك.

وأما المسلمون بعد أن فرّوا، فكان كل من رأى طُلب السلطان واقفًا والكوسات تدق، يستحي أن يتجاوزه، ويخاف غائلة ذلك ويعود إلى الطُلب، فاجتمع عند الطلب خلق عظيم، ووقف الإفرنج قبالتهم على [رؤوس] (٧) التلال والرّوابي، والسلطان -رحمه الله - واقف في طلبه لا يتحرك، حتى رجعت الناس بأسرهم. وخاف الإفرنج أن يكون في الشعراء كمين، فتراجعوا يطلبون المنزلة، وعاد السلطان إلى تل في أوائل الشعراء، ونزل عليه بلا خيمة.

وقال قاضي القضاة: ولقد كنتُ في خدمته وأسلّيه وهو لا يقبل، وظللت عليه بشيء (٨)، وأُحضر بين يديه شيء من الطعام، فتناول شيئًا يسيرا، وبعث الناس خيولهم للسقي، فإن الماء كان بعيدًا، وجلس ينتظر الناس حتى يعودوا من السقي، والجرحى يحضرون [١٢٣] بين يديه وهو يداويهم ويحملهم. وقتل في ذلك اليوم رجّالة كثيرة، وجرحت جماعة من الطائفتين. وكان ممن ثبت في هذه الوقعة الملك العادل، والطواشي قايماز النجمي، والملك الأفضل - ولد السلطان - صدم في ذلك اليوم وانفتح دمل كان في وجهه، وسال منه دم كثير على وجهه وهو صابر محتسب. وثبت أيضًا في


(١) انظر النوادر السلطانية، ص ١٨٣ - ١٨٤.
(٢) ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص ١٨٤.
(٣) رِدْءًا: دَعَمه وقوّاه. المعجم الوجيز، ص ٢٦٠.
(٤) الضمير هنا عائد على الإفرنج.
(٥) الضمير هنا عائد على المسلمين.
(٦)، (٧) في الأصل "رؤس".
(٨) يذكر ابن شداد إنه منديل. انظر النوادر السلطانية، ص ١٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>