القوم مثل ما قال. ففرح السلطان وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلاً، وانصرفوا من بين يديه على ذلك. ثم بلغه بعد ذلك عن بعض الأمراء أنه قال: إنا نخاف أن يجرى علينا في هذه البلدة كما جرى في عكا، ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا، والمصلحة أن نلقاهم بظاهر البلد، فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم، [١٤٧] وأن تكن الأخرى سَلَّمَ الله العسكر، ومضى القدس، وقد انحفظت بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة.
وكان مما بعثوا إلى السلطان يقولون: أن كُنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصر الإفرنج فكُن أنت معنا، أو بعض أهلك، حتى يكون الجيش تحت أَمْرِه، فإن الأكراد لا يطيعون الترك، والترك لا يطيعون الأكراد.
فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة، وبات ليلة ذلك أجمع مهموماً كئيبا، مفكراً فيما قالوا، ثم انجلى الأمر، واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس الشريف، وكان ذلك نهار الجمعة، فلما حضرت صلاة الجمعة وأذَّن المؤذنون قام فصلى ركعتين بعد الأذانين، وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالاً عظيما، وتضرع لديه وتمسكن، وسأله فيما بينه وبينه في كشف هذه الضائقة العظيمة (١).
وفى المرآة: وبعد افتراق الأمراء من عند السلطان بعد المشاورة، اختلفت الأمراء في الليل، فقال بعضهم: ما نقيم حتى يكون السلطان معنا، نخاف أن يجرى علينا ما جرى على أهل عكا. وبلغ السلطان ذلك، فبعث إليهم يقول: هذا مجد الدين بن فرخشاه ابن أخي يكون عندكم، وأكون أنا من برًا أَذُبُّ عنكم، فقالوا: ما هذا برأى، وإنما نخرج ونصدقهم الحملة، فإن قهرناهم وإلا سلم العسكر ونمضى إلى دمشق. فعز عليه ذلك خوفا على القدس ومن فيه من المسلمين، وبات ليلة الجمعة ساهرا باكيا متضرعا، وبعث بالصدقات إلى الفقراء. وطلع الفجر، فجلس إلى الضحى يدعو، ومضى إلى المسجد الأقصى فدخل المقصورة وسجد وبكى وتضرع إلى الله تعالى. وكان جرديك في اليزك فجاءت منه رقعة يقول: قد ركبوا بأسرهم.