للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألف مرة، ويزور المقابر بعد العصر في كل جمعة، ويصعد يوم الإثنين والخميس إلى مغارة الدم (١) ماشياً بالقبقاب (٢) فيصلي فيها ما بين الظهر والعصر، وإذا نزل جمع الشيح (٣) من الجبل وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، ولا ينام إلَّا على طهارة، ومتى فتح له شيء من الدنيا آثر به أقاربه وغيرهم، ويتصدق بثيابه، وربما خرج في الشتاء وعلى جسده جبة بغير ثوب، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل وعمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة، وكان ينام على الحصير ويأكل خبز الشعير وثوبه خام إلى أنصاف ساقية، وما نهى أحداً ولا أوجع قلب أحد. ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمته، فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة فما قطعها ولا التفت ولا نزل ورده، وكان يصعد المنبر في الجبل وعليه ثوب خام مهدول الجيب وفي يده عصى، والمنبر [٣٣٠] يومئذ ثلاث مراقي. وكان هو وأخوه وابن خالهم عبد الغني، وأخوه الشيخ عماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها السلطان صلاح الدين إلى بلاد الإفرنج. وقد حضروا معه فتح القدس الشريف. وهو الذي شرع في بناء الجامع أولاً، بناه رجل من الناس، فنفذ ما كان بيده، وقد ارتفع البناء قامة، فبعث صاحب إربل الملك المظفر مالاً فكمل به، وولي خطابته الشيخ أبو عمر. وقد حكى السبط (٤): إنه حضر يوماً عنده الجمعة، وكان الشيخ عبد الله اليوناني (٥) حاضراً هناك. فلما انتهى الشيخ أبو عمر إلى الدعاء للسلطان قال: اللهم أصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب. نهض الشيخ عبد الله وترك الجمعة. قال: فلما فرغنا ذهبت إليه فقلت: ماذا نقمت عليه؟ فقال: يقول لهذا الظالم العادل. ولا تحل خلفه الصلاة. فقلت في نفسي: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح فياليت شعري خلف من تصح! قال: فبينما نحن في الحديث إذا أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف


(١) مغارة الدم: توجد في جبل قاسيون المشرف على مدينة دمشق، ويقال إن في هذه المغارة قتل قابيل أخاه هابيل وهناك شبيه بالدم يزعمون أنه دمه باق إلى الآن. معجم البلدان، جـ ٤، ص ١٤.
(٢) القبقاب: الحذاء من خشب والجمع قباقيب. المنجد، مادة قبق، ص ٦٣٨.
(٣) الشيح: نبت سهلي من الفصيلة المركبة، رائحته طيبة قوية، المعجم الوجيز، مادة "شيح".
(٤) مرآة الزمان، جـ ٨، ص ٣٥٨.
(٥) كذا في الأصل، ومرآة الزمان، جـ ٨، ص ٣٥٨، وفي حاشية الذيل على الروضتين، ص ٧٢ حاشية رقم ١ ذكر أنه يقال له أيضًا "اليونيني" نسبة إلى بلد في بعلبك.

<<  <  ج: ص:  >  >>