فرح الطغاة والمتسلطون كلهم إلا واحدًا كان يرقب المشهد بعمق يقف ملجمًا بالحزن .. مثقلًا بالندم .. ينظر إلى ضحاياه .. يتأمل مطاياهم وهى تتمايل مغادرة مكة فتنتزع من قلبه بعض قسوته وعروقه .. كان صامتًا يخاطبه الندم ويقول له:
ماذا فعلت يابن الخطاب .. وماذا جنت يداك .. ويحك يا عمر إنهم أهلك وجيرانك وأصحابك .. ألا ترحم .. ألا يلين قلبك لهذا المنظر .. نساء حزانى .. وشباب حيارى .. وأطفال لا ذنب لهم .. ورجال كرام أهنتهم وشردتهم وضيقت عليهم حتى ملوا الحياة .. وهم الذين كانوا يكرمون الضيف .. ويحنون على الضعيف .. إلى أين ألجأتهم يا عمر؟ إلى بحر يتقلب بهم .. أم إلى أرض لا يعرفون بها أحدًا .. ماذا سيكون مصيرهم .. أنت لا تعرف وهم لا يعرفون .. هل خلقت بلا قلب يا عمر؟ تقدم أيها القاسي وقل شيئًا يخفف من لوعتهم.
وتقدم عمر .. وتحرك قلبه وتحركت شفتاه في هذا المشهد المعبر الذي ترسمه لنا أم عبد الله زوجة عامر بن ربيعة بقولها:
(كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة. جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعير نريد أن نتوجه فقال: أين يا أم عبد الله؟
فقلت له: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله [والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجًا] (١).