(لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، ومن عمه، لا يصل إليه شىء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم أحد عنده، فالحقوا ببلاده، يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا , ولم نخش فيها ظلمًا)(١). كان النجاشي ملك الحبشة نصرانيًا يحمل الصليب على صدره لكنه كان عادلًا.
أرض بلال تجود مرة أخرى .. وشلالاتها تغسل دموع المؤمنين وأحزانهم وتطهر جرحهم من أشواك قريش ورماحها .. لكن لماذا الحبشة؟ هل لأنها أرض النصارى .. والنصارى أهل دين نزل من السماء كالإِسلام تمامًا .. ربما .. لا سيما وجزيرة العرب غابة من الأصنام .. وأرض فارس تتأجج نارًا تحرق أهل فارس .. وتحرق فطرتهم وتذيبها كلما ركعوا لها أو تمسحوا برمادها وتمرغوا .. ربما كانت في هذه بعض الإجابة .. لكن الإجابة المؤكدة هي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده) إذًا فهو العدل والعدل فقط .. وقريش قد فرغت جيوبها وقلوبها من العدل.
ابتسم المتسلطون وهم يرون هؤلاء الفقراء يحملون أطفالهم ويودعون مكة الحبيبة تبللهم الدموع ويتقلب الجمر في أكبادهم .. يتركون بيوتهم .. يتركون نبيهم صلى الله عليه وسلم وإخوانهم يتلبطون بين السياط.
(١) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق، (سيرة ابن كثير ٢/ ١٧٢) فقال: حدثني الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها، وابن إسحاق لم يعنعن بل صرح بسماعه من شيخه الإمام المعروف: الزهرى، وشيخ الزهري هنا هو تابعي ثقة فقيه معروف. التقريب (٢/ ٣٩٨).