ويستحق أن تنقطع الأعناق في الصحاري والقفار بحثًا عنه .. في يوم من الأيام يقرر أحد المؤمنين أن يترك أهله ودياره .. يقرر أن يلتحق بتلك الصفة المتواضعة خوفًا على دينه .. أيام تمر وليالي تمضي وهو يسير مع غلامه في طريق الهجرة .. وذات يوم وعندما خيَّم الليل .. يقرر ذلك الغلام الفرار والهرب من سيده فيفعل .. ويتركه وحيدًا مع الليل الخوف .. فيواصل سيده المسير دون تردد وتلك الليلة المشحونة بالهموم والوحدة والإرهاق تملأ صدره .. فيتنهد شعرًا ويقول:
يا ليلة من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نجَّت
مسافر بلا رفيق .. وليل طويل .. وطريق غير آمنة .. كل ذلك يهون لأن كل ذلك يؤدي إلى المدينة .. سكن ذلك المسافر في الصفة وتخرج منها ليكون أعظم علماء الإِسلام في الحديث .. تخرج هو وغيره من تلك الصفة علماء لأنها لم تكن ملجأ فقط .. لقد تحولت إلى كتاب مفتوح منذ ذلك اليوم الذي خرج فيه -صلى الله عليه وسلم- على أهل الصفة وحدثهم .. عقبة بن عامر كان أحد الحاضرين سألناه ماذا قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا عقبة فقال:
(خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصفة فقال:
"أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم" .. فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك .. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا يغدو أحدكم إلى السجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع .. ومن أعدادهن من الإبل") (١) الإبل التي هي أنفس ما يملكه العربي .. حولها الإِسلام إلى أشياء رخيصة أمام أحرف العلم ..