للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحال، وقابل الأمر بالامتثال، وانتقل بعياله ومتاعه إلى الميدان، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين وكان لهم به من الحظوة والسرور ما كان، فانقاد له الكبير والصغير، وأحبه الجليل والحقير، وقدموه على الملك والمال، والأهل والعيال، وكان هو لهم بمنزلة الوالد والشقيق، والرفيق الرفيق، يجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعظهم بما ينفع، ويذب عنهم الأذى جهده ويدفع.

ومما وقع له من الأمور الغريبة، والحوادث النادرة العجيبة، أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين وألف في رمضان، كان جالساً في حجرته قبيل الزوال يتدارس القرآن مع أحد أولاده، إذ جاءه رسول القاضي فقال له: إن القاضي يرومك فبادر لمراده، فقام ممتثلاً، وللإجابة مستعجلاً، فلما دخل عليه، نظر القاضي بعين المقت إليه، وقال له أنت الذي قد استملت الناس إليك، حتى صاروا لا يعتمدون في مصالحهم إلا عليك، وإن السلطان قد وجه حاكماً لمصالح العباد، وأنت قد حلت بيننا وبينها وهذا عدوان وفساد، وما زال يقرعه هو وأهل المحكمة، وينسبون إليه كل مفسدة ومظلمة، إلى أن أمر القاضي يحبسه في حبس الأشقياء الطغام، وقال له هذا جزاء من يتعرض لمصالح الحكام، ولم يصغ لقوله ولا لاعتذاره، بل كلما بالغ في تلطيفه بالغ في إنذاره، فاستدار حوله الأعوان، وأخذوه إلى الحبس وأسلموه للسجان، فدخل السجن وهو راض بالقدر، ليس في قلبه تغير ولا كدر، وجلس يتلو القرآن، وأهله وأولاده وعائلته ليس لهم خبر بهذا الطغيان، فما أذن العصر، إلا وقد شاع هذا الأمر، فقام الناس على ساق، وأظهروا حالة الخلاف والشقاق، ورعدت رعود الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الأمن والركون ذيلها، وسدت الطرق من ورود الأفواج، حتى لم يبق لسالك من مسلك ولا لناهج من منهاج، وكل إنسان متقلد بأنواع السلاح، لا يصغي لعاذل ولا لاح، وكل من القاضي وأعوانه خال أنه بلغ مطلوبه، ونال من هذا الفاضل مرامه ومرغوبه، وأنه قد أدب فيه سواء، وجعله هدفاً لسهام من عداه، فلما صار الغروب توجه الناس لنصرة الدين أفواجاً، جاعلين ذلك لرضى مولاهم منهاجاً، فلما سمع القاضي بذلك، علم أنه أوقع نفسه بالمعاطب والمهالك، فندم حين

<<  <   >  >>