وصل إلى الموصل فمكث بها أياما، وقد نال بجميع سياحته عزاً واحتراما، ثم رجع إلى وطنه بغداد، وقد ارتفع قدره بها وازداد، ولم يزل يفيد كل طالب، ويدعو الناس إلى الفضائل والرغائب، إلى أن دعاه مولاه، وأناله من جميله ما أولاه، وكان ذلك قبيل المغرب ليلة عيد الفطر آخر يوم من رمضان في سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، ودفن رحمه الله في جانب الكرخ مع مشايخه، وكان موته مصيبة عظيمة، ونكبة عامة جسيمة. وقد رثاه الهمام الفلاضل، نسل الأعيان الأفاضل، محمد أمين أفندي الجبوري، فقال:
قد فل غارب سيف الدين وانثلما ... وانهد ركن من الإسلام وانهدما
وطود علم جليل دك شامخه ... وشارق من عماد الفضل قد قصما
فاغرورقت أعين الإسلام باكية ... والدين حزناً على خديه قد لطما
به الحقيقة تمت وانتهت وبه ... علم الحديث كذاك الفقه قد ختما
سل العراق وأهل الشام عنه وسل ... أهل الحجاز كذاك الحل والحرما
وأهل نجد من الماحي تعصبها ... ومن إليه سواه ألقت السلما
ولا أخو جدل إلا وألقمه ... حجارة فدعاه لا يلوك فما
وكم له من تآليف منضدة ... كأنما الوحي في أقسامها انقسما
هي الصحاح التي يفتي بها أبداً ... وهي الأدلة إلزاماً وملتزما
بآخر الصوم قد نادى مؤرخه ... داود بالخلد وافى أرحم الرحما
وللأفاضل في حقه مراثي كثيرة، هي في قطره معروفة شهيرة، قد ذكر أكثرها ولده الفاضل العارف، في ترجمة والده المسماة باللطائف، وله رحمه الله من التآليف، ما يغني عن الترجمة والتعريف، ولولا خوف الإطالة والإسهاب، المخرج ذلك عن اصطلاحنا في هذا الكتاب، لأوسعت دائرة التحبير، في بعض مناقب هذا الشهم الكبير، ولكن الشمس في رابعة النهار، لا يحتاج عرفانها إلى خبر واستخبار، رحمه الله تعالى.