للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة، ثم بواسط، ولم يزل ماشي الحال مدة حيوته، فلما توفي تشتت شمل أتباعه والمنتسبين إليه، ونال المكروه [بعضهم] (١) وأقام العماد مدة في عيش منكر، وجفن مسهد، ثم انتقل إلى مدينة دمشق فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، وحاكمها ومتولى أمورها ومدبر دولتها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري، فتعرف به وحضر مجالسه، وذكر لديه مسألة في الخلاف، وعرفه الأمير الكبير نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين يوسف، وكان يعرف عمه العزيز من قلعة تكريت، فأحسن إليه وأكرمه وميزه عند الأعيان والأماثل، وعرَفه السلطان صلاح الدين من جهة والده، ومدحه في ذلك الوقت بدمشق، وذكر العماد ذلك في كتابه "البرق الشامي" وأورد القصيدة التي مدحه بها يومئذ، ثم إن القاضي كمال الدين نوّه بذكره عند السلطان نور الدين الشهيد، وعدد عليه فضائله، وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيرًا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي، ولا تقدمت لي به درية (٢)، ولقد كانت مواد هذه الصناعة عقيدة (٣) عنده لكنه لم يكن قد مارسها، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب، وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضًا، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة، وامتزاج تام، وعلت منزلته عند نور الدين - رحمه الله - وصار صاحب سره، وسيّره إلى بغداد رسولا في أيام المستنجد، ولما عاد فوض إليه تدريس المدرسة المعروفة بدمشق بالعمادية، وذلك في رجب سنة سبع وستين وخمسمائة، ثم رتبه في أشراف الديوان في سنة ثمان وستين، ولم يزل مستقيم الحال رضىّ البال إلى أن توفي نور الدين الشهيد، وقام ولده الملك الصالح مقامه، وكان صغيرًا، فاستولى عليه جماعة كانوا يكرهون العماد، فضايقوه وأخافوه إلى أن ترك جميع ما هو فيه، وسافر قاصدًا بغداد فوصل إلى الموصل، ومرض بها مرضًا شديدًا.


(١) ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ ٥، ص ١٤٨، لتوضيح المعنى.
(٢) دربة: الدربة عادة وجراءة على الحرب. انظر الرازي، مختار الصحاح، ص ٢٠١ - ٢٠٢.
(٣) "عقيدة" كذا في الأصل والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ ٥، ص ١٤٨، حيث يتسق مع السياق.

<<  <  ج: ص:  >  >>