ثم بلغه خروج السلطان صلاح الدين يوسف من الديار المصرية لأخذ دمشق، فانثنى عزمه عن قصد العراق، وعزم على العود إلى الشام، وخرج من الموصل رابع جمادى الأولى سنة سبعين وخمسمائة، وسلك [٢٧٠] طريق البرية، فدخل دمشق ثامن جمادى الآخرة، وصلاح الدين يومئذ نازل على حلب، ثم قصد خدمته وقد تسلم قلعة حمص في شعبان من السنة المذكورة، فحضر بين يديه، وأنشد قصيدته أطال فيها، ثم لزم الباب، فرحل لرحيل السلطان، وينزل لنزوله، واستمر على عطلته مُديدة، وهو يغشي مجالس السلطان، وينشده في كل وقت، ويعرض بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب منه، وصار من جملة الصدور المعدودين، الأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء، ويجري في مضامرهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان، ويتوفر على مصالح الديار المصرية، وكان العماد يلازم الباب بالشام وغيره، وهو صاحب السر المكتوم، وصنف التصانيف النافعة من ذلك: كتاب "خريدة القصر وجريدة العصر"، جعله ذيلًا على "زينة الدهر" تأليف "أبي المعالي سعد بن على الوراق الخطيري" والخطيري جعله ذيلًا على دمية القصر وعصره أهل العصر" للباخرزي، جعله ذيلًا على "يتيمة الدهر للثعالبي، والثعالبي جعل كتابه ذيلًا على كتاب "البارع" لهارون بن على المنجم. وقد ذكر العماد الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين] (١) وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب ولم يترك إلا النادر الخامل، وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات، وصنف كتاب "البرق الشامي" في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وكيفية تعلقه بخدمة السلطان صلاح الدين يوسف، وذكر شيء من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه البرق الشامي لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف؛ لطيبها وسرعة انقضائها، وصنف كتاب "الفتح القسي في الفتح القدسي" في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب "السيل على الذيل" جعله ذيلًا على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به "تاريخ بغداد" تأليف الخطيب البغدادي الحافظ،
(١) ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، ج ٥، ص ١٥٠.