وكان أديب النفْس كاتبًا بليغًا، شاعرًا مُجِيدًا، رقيقَ الغَزَل بارعَ المَنازع، فائقَ النَّظْم والنثرُ، مبرِّزًا في فَهْم المعاني، نَحْويًّا ماهرًا ذاكرًا للُّغاتِ والآداب، من أبرعِ مَن رأيتُه خَطًّا، وكان لا يُحسِنُ بَرْيَ القلم، إنّما كان يُبْرَى لهُ، وكان قد شَرَعَ في الجَمْع بين "تفسيرَي الزمخشَريِّ وابن عَطِيّة" فخَلَصَ (١) منه جملةٌ واختُرِم قبْلَ إتمامِه، ورَجَّزَ "الأحكام في مُحجِزاتِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلام" تأليفَ شيخِنا أبي محمد حَسَن ابن القَطّان ترجيزًا حسَنًا مستوعَبَ الأغراض. وله منظوماتٌ كثيرةٌ في مقاصدَ شَتّى ورسائلُ منوَّعة، وكلُّ ذلك شاهدٌ بتبريزِه وجَوْدة مآخِذِه، وكان نَفّاعًا بجاهِه سَمحًا بمالِه مؤْثِرًا بما ملَكَتْ يمينُه، كثيرَ الإطعام متصدِّقًا على الفُقراءِ والمساكين، مبسوطَ اليدِ كريمَ الأخلاق طيِّبَ النفْس، وله رسالةٌ بارعة كتَبَ بها إلى قبرِ النبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهي:
"إلى سيِّد المُرسَلين، ورسُولِ ربِّ العالَمين، الذي جُعِلَتْ له الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا، وكان ولم يزَلْ منتقِلاً من صُلبِ آدمَ نورًا، من يَلجَأ إليه يومَ الفَزَع الأكبرِ النَّبِيُّون، ويَرجو مذخورَ شفاعتِه في غدٍ المُسِيئون، ذُؤابةُ بني هاشمِ، المُتجَشِّمُ في ذاتِ الله سبحانَه أصعبَ المجاشِم، الذي نبَعَ بين أصابعِه الماء، وانهَلَّت بدعوته السماء، وحَنَّ إليه الجِذْعُ حنينَ الثَّكْلى، وأنبَأَهُ الذَّراعُ بسُمِّه وقد رام لهُ أكلًا، من أظَّلتْه الحمائم، وناجَتْه العِظامُ الرَّمائم، وأقَرَّ بنُبوّتِه الضَّبُّ وشَهِدَ لهُ بذلك تصديقًا، واستشفَعَ به ريمُ الفَلاةِ فمَرَّ طليقًا، المُصطفى المختار، قامعُ جيشِ الغِوايةِ وقد فار، ذو الحَوْض المورود، والمقام المحمود، واليوم العظيم المشهود، الذي انشَقَّ له القمر، ودانَ له الأسوَدُ والأحمر، ولاحَ النُّورُ الإلهيُّ من قَسَماتِه، وعَرَفَه الكَهَنةُ والأحبارُ قبلَ كونِه بسِماتِه، بُشْرى الكليم، والنافثُ بالإسلام في قلبِ السَّليم، المَيْمونُ النَّقيبةِ والطَّليعة، المُشيرُ إلى الأصنام فخَرَّت صَريعة، حبيبُ الله وخَليلُه، ومَن أُنزِلَ عليه تحريمُه وتحليلُه، وقام على صِدقِه برهانُ الحقِّ الواضح ودليلُه، الذي أعجَزَ البُلَغاءَ وهم أوفرُ الناس في وقتهِ عَدَدًا،