وكان من حُسَباءِ قُرطُبةَ وفُضَلائها ومجوِّدي مُقرِئيها، أَمَّ بالناس في أشفاع رَمضانَ بجامعِها كثيرًا، وأكتَبَ القرآنَ مُدّةً طويلة، ثُم توَلَّى خُطّةَ المواريثِ مُدّةً ظَهَرَتْ فيها أمانتُه، وكان كثيرَ تلاوةِ القرآن حَسَنَ الصّوت به جميلَ الإيرادِ له.
حدَّث أنه مَكَثَ غائبًا ببلاد النَّصارى، دمَّرَهُم الله، ببعضِ جزائرِ البحرِ زمانًا، إذ كان قد امتُحِن بالأسرِ في البحر، وقد رَكِبَه مُشرِّقًا حاجًّا، وأنّ سببَ سَراحِه أنه تَقاطَعَ معَ الله تعالى على إنقاذِه من الأسر بمئةِ خَتْمةٍ يختِمُها من القرآنِ العزيز، فكان متى خَتَمَ خَتْمةً قام إلى حائط فخَطَّ فيه خَطًّا، فبَيْنا هو يومًا قد خَتَمَ القرآنَ وكانت تمام الخَتماتِ المئة، وهو لم يَشعُرْ لذلك، رأى طائرًا كان محبوسًا في قَفَص هنالك وقد انفَتَحَ له باب القَفَص فخرَجَ منه ووَقَفَ على ظهرِه فسَوَّى جناحَيْهِ وطار، فوقَعَ بخاطرِه أنّ ذلك تنبيهٌ من الله عزَّ وجَلّ لهُ، فقام إلى تلك الخَطّات التي كان يَخُطُّ بالحائط، فعَدَّها فألْفاها مئةَ خَطّة، فخرَجَ في اللّيلة الآتية إلى شاطئ البحر، فوَجَدَ هنالك زَوْرَقًا فدَخَلَ فيه هُو وجماعةٌ معَه من المسلمينَ الأُسارى فنَجّاهُم الله بنَجاتِه، وخَرَجوا جميعًا إلى [١٥٣ و] بلادِ المسلمينَ سالمين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
وُلدَ عامَ ستةٍ وعشرينَ وخمس مئة، وتوفِّي يومَ السّبت لاثنَتيْ عشْرةَ ليلةً خَلَتْ من محرَّمِ ستٍّ مئة، وصَلّى عليه المُقرئُ أبو عبد الله بن عَيّاش الشَّنْتِياليّ، ودُفنَ بمقبُرةِ ابن عبّاس (١).
(١) هنا تقع ترجمة مزيدة في ح (الورقة: ١٥٤) وهي: "عيسى بن محمد بن عيسى بن محمد التجيبي وادي آشي نزل المرية، أبو الأصبغ. تلا بالسبع على أبي محمد الدهان وأحزابًا من القرآن بالسبع جمعًا على أبي عبد الله البسطي، وصحب الزاهد العابد أبا إسحاق البلفيقي اكبر مدة، وأخذ بسبتة عن أبي العباس العزفي، وبفاس عن ابن الكتاني وابن عشري، وبمراكش عن أبي الحسن ابن القطان، وبالمرية عن أبي عبد الله بن هشام وسمع منه وأجاز له. وكان معلم كتّاب مقرئًا بالقرآن العزيز، لزم ذلك نحو ثلاثين سنة بالمرية وغيرها، وكان من أهل الخير والصلاح والعفة، تلا عليه بحرف نافع أبو إسحاق البلفيقي الأصغر وقرأ عليه غير ذلك".