للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كثُرت، لا منَ الملوكِ ولا من غيرِهم، على اختلافِ طبقاتِ الناس، إلّا من آحادٍ من بعضِ خُلْصانِه ممّن قد تحقَّق طِيبَ مكسَبِهم، وذلك في النَّزْرِ اليسيرِ والنادرِ من الأوقات. وكتَبَ الكثيرَ من العلم بخطِّه، وكان مُثابِرًا على طَلَبِه مُرغِّبًا فيه كلَّ من يَغْشاهُ من أصحابِه، وافرَ الحَظِّ من علم القراءاتِ والفقه، وعُرِضَتْ عليه أوانَ طَلَبِه ولايةُ القضاء بشَرِيش فنَفَرَ من ذلك وامتَنعَ حتى أُعفِيَ؛ وكان مُقتصِدًا في أحوالِه: اقتَصرَ في إجراءِ معيشتِه على نَسْخ المصاحف بعدَ طُول تردُّدِه في التماسِ حِرفةٍ ليَسلَمَ من تَبِعاتِها فلم يَجِدْها.

واستدعاهُ أبو يعقوبَ بنُ عبد المُؤمن فأجابَه وقرَّرَ لديه من أعذارِه في إعفائه من العَوْدِ إليس ما اقتَضَى عندَه قَبولَه، فأسعَفَه في ذلك عملًا على مساعدتِه،

وعَرَضَ عليه مالًا فأبَى من قَبولِه، فتَرَكَه لرأيِه مُوافقةً عليه ووقوفًا عند مَرْضاتِه.

وكان تلميذُه الأخصُّ به أبو عِمرانَ المارْتُليُّ، إذا جَرى ذكْرُه بينَ أصحابِه يقول: لو رأيتُموهُ رأيتُم فردًا من أفرادِ الزّمان وبَدَلًا من الإبدالِ لا يُقدَّرُ ولا يُمثَّلُ إلّا بالصدر الأوّل والسَّلَفِ الصالح.

ومما يؤْثَرُ عنه من كراماتِه وحمايةِ الله إيّاه: أنّ أبا العبّاس الشهيرَ بالبُرَيْرَق ويُعرَفُ أيضًا بأبي رَقِيقةَ -وكان أحدَ أصحابِه- كان يُهدي إليه أوّلَ طِيبِ العنبِ كلَّ سنةٍ شيئًا من عِنَبِه الَّذي يَجنيه من موضعِه الصائرِ إليه بالإرثِ عن آبائه عن أجدادِه منذُ زمن الفَتْح، فكان دَأْبُ أبي عبد الله قَبولَ هديّتِه؛ لتحقُّقِه طِيبَ أصلِها، ولمّا كان في بعض الأعوام رَدَّها عليه وأبَى قَبولَها، فرابَ ذلك أبا العبّاس وشَقَّ عليه وغاب عنه السببُ فيه، فعَمَدَ إلى أبي عبد الله وسألَه عن مُوجِب رَدِّ هديّتِه ومخالفةِ ما عوَّدَه من قَبولِها، فقال له: إنّما صرَفْتُها عليك؛ لأنّها ليست من مالِك، فابحَثْ عنها. فرَجَعَ أبو العبّاس إلى منزلِه وسألَ أهلَه فأُخبِرَ أنّ ذلك العنبَ من جَنّة أحدِ جِيرانِهم، وقيل له: إنّا رأينا عنبًا أكحَلَ طيِّبًا ليس لنا مثلُه، فرأينا أنْ نُهديَه إلى الشّيخ أبي عبد الله ونؤْثرَه به، فسُرِّيَ عن أبي العبّاس ما كان قد وَجَدَ في نَفْسِه من ذلك وعَلِمَ أن اللهَ سبحانَه قد وَقَى

<<  <  ج: ص:  >  >>