ومما اشتُهِرَ به حِفظُ "صحيح البخاريِّ" إسنادًا ومَتْنًا، وكتابِ "النَّبات" لأبي حنيفةَ. وكان أوّلَ طلَبِه ألزَمَه أبوهُ موضِعًا من دارِه وبَناهُ عليه، ولم يُتْرَكْ منه إلا موضعٌ يُدخَلُ منه الطّعامُ والشّرابُ إليه، وأقسَمَ إلّا يُخرجَه منه حتى يَستظهِرَ كتابَ "حِيلةِ البُرْءِ" لجالينوس، فلم يمُرَّ عليه إلّا أمدٌ قليلٌ حتى فَرَغَ من حِفظِه، وشفَعَه بـ"تشريحِ جالينوسَ الكبير".
وكان بارعَ النَّظْم فائقَ التوليدِ والاختراع، بَذَّ أهلَ زمانِه في النَّظم الذي اختَصَّ أهلُ الأندَلُس باختراعِه المعروفِ بالتوشيح، لا يُقاومُه أحدٌ من أهل الأندَلُس في ذلك كلِّه عندَهم؛ وكان معظَّمًا عند ملوكِ عصرِه من آلِ عبد المُؤْمن، مقبولَ الشَّفاعةِ عندَهم، حَظِيَّ المكانةِ لديهم، مكرَّمَ الوِفاداتِ عليهم. واستَقْضاهُ أبو يعقوبَ منهم في محِلّتِه عامَ فَتْح غُمارةَ، وهو عامُ ثلاثةٍ وستّينَ وخمسِ مئة، وفَتْح جبل الكوكَبِ يومَ (١)، فكان يُدعَى حينئذٍ قاضيَ الجماعة، وهو كان الناظرَ في إتمام بناءِ جامع إشبيلِيَةَ الأعظم، طهَّرَه الله، حتّى كَمُلَ حسبَما رَسَمَه لهُ المنصورُ أبو يوسُفَ يعقوبُ بن يوسُف بن عبد المُؤْمن، وكان في بعضِ وِفاداتِه على مَرّاكُشَ قد طال مقامُه بها، فحَنَّ إلى بلدِه واشتاقَ إلى أهلِه، فكتَبَ إلى أبي حَفْص بن عبد المُؤْمن [المتقارب]: