هذه إلى غايةِ عمُرِه، وكان كثيرًا ما يتمثّلُ بقولِ القاضي عليِّ بن عبد العزيز الجُرْجانيِّ (١) [من الطويل]:
يقولونَ لي: فيك انقباضٌ وإنّما ... رأَوْا رجُلًا عن موقفِ الذُّلِّ أحجَما
يَرى أنّ من داناهمُ هان عندَهمْ ... ومَن أكرَمْته عزّةُ النفْسِ أُكرِما
وما كلُّ بَرْقٍ لاحَ لي يَستفِزُّني ... ولا كلُّ مَن لاقَيْتُ أرضاهُ مُنعِما
وما زِلتُ مُنحازًا بعِرضيَ جانبًا ... عن الذُّلِّ أعتَدُّ الصِّيانةَ مَغنَما
إذا قيل: هذا موردٌ قلتُ: قد أرى ... ولكنّ نفْسَ الحرّ تحتملُ الظَّما
وإنّي إذا ما فاتَني الأمرُ لم أبِتْ ... أُقلِّبُ كفِّي إثْرَه متندِّما
ولكنّهُ إنْ جاء عَفْوًا قبِلتُهُ ... وإنْ مال لم أُتبِعْه هلّا وليتَما
وأقبِضُ خَطْوي عن حظوظٍ قريبةٍ ... إذا لم أنَلْها وافرَ العِرض مُكرَما
وأُكرِمُ نَفْسي أن أُضاحِكَ عابسًا ... وأن أُتلقَّى بالمديح مُذمَّما
أُنَهنِهُها عن بعضِ ما قد يَشِينُها ... مخافةَ أقوالِ العِدا: فيمَ أولِما
ولمْ أقْضِ حقَّ العِلم إن كنتُ كلّما ... بَدَا طمَعٌ صيَّرتُهُ ليَ سُلَّما
ولم أبتذِلْ في خدمةِ العِلم مُهجتي ... لأخدُمَ من لاقَيْتُ إلا لأُخدَما
أأغرِسُه عزًّا وأجنيهِ ذِلّةً ... إذَنْ فاتّباعُ الجهلِ قد كان أحزَما
فإنْ قلتَ: جَدُّ العلم كابٍ فإنّما ... كَبَاحينَ لم يَحْمُوا حِماهُ وأُسلِما
ولو أنّ أهلَ العلم صانُوهُ صانَهمْ ... ولو عظَّموه في النفوسِ لعَظَّما
ولكنْ أهانوهُ فهان ودَنَّسوا ... مُحَيّاهُ بالأطماع حتى تجَهَّما
(١) ترجمة القاضي الجرجاني في وفيات الأعيان ٣/ ٢٧٨ والمصادر المحال عليها في الحاشية وقصيدته المذكورة مشهورة، وقد تمثل بها أيضًا معاصر المترجم ابن الزيات في كتابه التشوف: ٢٧٤.