إليه بسببِه حتّى ينقضيَ أرَبُه وينفصلَ عنهُ أبو سَعِيدٍ متأسِّفًا عليه مسترجعًا قائلًا: أيّ رجُلٍ استَمالتْه الدّنيا واستَهواهُ زُخرُفُها! وكان هذا القولُ من أبي سَعيدٍ بناءً على حالتِه التي سَتَرَه اللهُ فيها وأعانهُ عليها، وإلا فأبو موسى رحمه اللهُ لم يتلبَّسْ من الدّنيا إلا بما يَتظاهرُ به بينَ أبنائها تَقِيّةً منه على نفسِه، فأمّا في باطنِ أمرِه وخفِيِّ حالِه فإنه كان على أرفع درجاتِ الزُّهدِ والتقلُّل من الدّنيا، نفَعَه اللهُ.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: والشيءُ يُذكَرُ بالشّيء، كان الشّيخ أبو سَعِيدٍ هذا رحمَه اللهُ قد صنَّفَ كتابًا جمَعَ فيه فنونَ العلم على تفاريقِها حسبَما انتهى إليه إدراكُه واقتضاهُ تحصيلُه، وسمّاه "منارَ العلم"(١)، فأخبَرني الشّيخُ الحافظُ أبو عليّ الماقريُّ الضَّريرُ رحمَه الله، قال: كنتُ جالسًا معَ [أبي سَعِيد] هذا بدُكّانِ بعض الوَرّاقينَ من مَرّاكُشَ ولا ثالثَ معَنا، فقلتُ له:[إنّك] قد أغْرَبْتَ بوَضْع هذا الكتاب وجمَعْتَ فيه متفَرِّقاتِ ضروب العِلم [وفنونَه] فما سبَقَكَ أحدٌ إلى وَضْع مثلِه، وقد رأيتُ رأيًا أعرِضُه عليكَ، فقال:[وما هو؟ فقلت:] ترفَعُه إلى أمير المؤمنينَ، وذلك صَدْرَ أيام المستنصِر من بني عبد المؤمن، [فإنّ ذلك] أشهرُ لهُ وأنفَقُ لسُوقِه، فأضْرَبَ عن جَوابي، ولم يَرُعْني إلا صوتٌ باكٍ ولا عهدَ لي بثالثٍ معَنا، فتحسَّستُ أمرَه فتحقَّقتُ أنهُ الباكي، فقلتُ له: أبا سَعِيد، ما لك؟ فأعرَضَ عنّي وتمادَى على بُكائِه ساعةً ثم قطَعَه واستَرجَعَ، وقال لي: أحسَنَ اللهُ عزائي فيكَ وأعظَمَ أجري في المصابِ بك، قد كنتُ أعتقدُ أنّا لم
(١) أشار إلى هذا الكتاب العبدري الحيحي في أول رحلته وذلك بمناسبة زيارته قبر الشيخ الصالح أبي حفص عمر بن هارون ببلد أنسا من أعلى السوس الأقصى وهو مترجم في التشوف، قال العبدري: "وذكره الشيخ الصالح أبو سعيد الحاحي المتراري في كتابه "منار العلم" وقال: إنه كان يدخل عليهم في الدرس فيقول: تهنيكم عبادة القلوب والألسن والأيدي والأعين يعني العلم، وهذا كلام من أُيّد بالتوفيق، وأُيّد بالتحقيق"، وعرض مؤلف "مفاخر البربر" إلى هذا الكتاب وإلى مؤلفه فقال: "ومنهم (أي من علماء البربر) الشَّيخ أبو عبد الله -كذا- البوغاغي، وله كتاب منار العلم" انظر الرحلة المغربية: ٧ تحقيق الأستاذ محمد الفاسي، ومفاخر البربر: ٧٢.