للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابنُ نَذِير فقال له: قد أبَحْتُ لك ما سألتَ فاجتهِدْ، فالاجتهادُ [مطلوب].

وأخَذَ عنه ببجَايةَ: أبو الحَسَن بنُ أبي نَصْر، وأبو عبد الله بنُ عبد الله بن [....] (١).

وكان متحقِّقًا بعلم الكلام، متقدِّمًا في معرفةِ أصُولِ الفقه حتى شُهِرَ [بالأصُوليِّ] وعُنيَ طويلًا بـ "مُستصفَى" الغَزّاليِّ فأصلَحَ مختلَّه، وصَحَّحَ معتَلَّه، وعلَّق عليه [تعليقاتٍ] أفادَ بها، وتُنوقلَتْ عنه، وشُهِر بالعكوفِ على العلوم القديمةِ الفلسَفِيّة، وله حَظٌّ صَالح من الفقه، وكان أوّلَ قدومه على مَرّاكُشَ يحضرُ كثيرًا مجلسَ المنصُور، من بني عبد المؤمن، فيُعامِلُ المنصورَ بضُروبٍ من الجفاء، لا يحتملُ أخفَّها الأكْفاء، حتى أثَّر ذلك عندَه وأسرَّه لهُ في نفسِه، وكان ذلك من أقوى الأسباب التي اقتَضَت عندَه تعريضَه للعنِ الناس إيّاه، ونَصْبِه لبُصاقِهم في وجهِه معَ وسيلتِه في الارتسام بتلك الطريقةِ المشنوءة، [طريقةِ] أبي الوليد بن رُشْدٍ الصَّغير، حسبَما مَرَّ ذلك في رَسْمِه (٢)، وسأله المنصُورُ حينئذٍ: هل نَظَرَ في العلم الذي نُكِبَ ابنُ رُشدٍ بسببه؟ فأقَرَّ بقراءتِه والأخْذِ فيه، معَ تحقُّقِه مما عليه في ذلك، فكان اعترافُه من الأسبابِ التي ألحقَتْه بابن رُشْدٍ في تلك الوَقِيعةِ الشَّنيعة، وتعجَّبَ المنصُورُ والناسُ جميعًا من إجابتِه المنصورَ بالحقِّ عمّا سألَهُ كائنًا فيه ما كان، وظهَرَ منه في هذه المِحنة من الجَلَد وثبوتِ الجأش وقوّةِ النفْس ما قضَى مشاهدوهُ منه العجبَ، ثم غُرِّب إلى أغمات فأسكِنَ بها، ولم يزَلْ فيها حتى عُفِيَ عنه، واستُقضِيَ عَقِبَ العفوِ عنه ببِجَايةَ، وقد كان استُقضيَ بها مرَّتَيْنِ، وبمُرْسِيَة، واستُنيبَ بمَرّاكُشَ، وكان يقولُ حين استُقضِيَ ببِجَاية في المرةِ الأخيرة: والله ما تقلَّدتُها رغبةً فيها ولا تغبيطًا بها، ولكنْ تسجيلًا على مُقلِّدِها إيّايَ بقبيح التناقُض الذي لا يَصدُرُ عمّن له مُسْكةُ عَقْل في توليةِ القضاءِ والفَصْل في الأحكام الشّرعيّة بينَ الناس مَن صَحَّت عندَه زَندقتُه واشتغالُه بعلوم الأوائل! واستقَرَّ قاضيًا بها مُدّة، صادعًا بالحقّ، جَزْلًا في أحكامِه،


(١) لعله أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعافري القلعي. (عنوان الدراية: ٧٩).
(٢) انظر الذيل ٦/الترجمة ٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>