للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن محمد بن أبي بكر بن سَعِيد بن عبد الغَفُور الأوْسيُّ، ولقِيتُه وجالَسْتُه كثيرًا، وسمعتُ وعظَه، وكان لا يكادُ يُفقَهُ ما يقولُ؛ لإفراط عُجمةٍ كانت في لسانِه، فلا يفهَمُه إلا من ألِفَه، وكان أصمَّ لا يكادُ يسمَعُ شيئًا (١)، فقيهًا حَنْبليَّ المذهب، آية من آياتِ الله في كثرةِ الحِفظ وحضورِ الذِّكْر وحَشْد الأقوال فيما يَجري بمجلسِه الوَعْظيِّ (٢) أو يُحاضرُ به في غيرِه، سريعَ الإنشاء ناظمًا ناثرًا، مع الإحسانِ في الطريقتَيْن، جيِّدَ الخَطّ والكَتْب على كَبْرتِه.

وَرَدَ مَرّاكُشَ في وَسَط اثنتينِ وخمسينَ وست مئة. [وكان وقتَئذٍ ابنَ] ثمانينَ عامًا, ولم يكنْ في رأسِه ولحيتِه من الشَّيبِ إلا [شُعَيْراتٌ تدرَكُ بالعَدّ] والحَصْر.

وأخبَرني أنه عَرَضَ وهو ابنُ عشرينَ عامًا على أبي الفَرَج ابن الجَوْزيّ كتابَه "المنتخَب" عن ظهرِ قلب ببغداد.

وفَصَلَ عن مَرّاكُشَ ذلك العامَ [عائدًا إلى المشرق] واجتازَ بسَبْتةَ وقد كان دَخَلَها أولَ ذلك العام وأجازَ منها البحرَ إلى الأندَلُس مُطوِّفًا على البلاد يَعقِدُ فيها مجالسَ الوعظ.


(١) قال ابن الزبير: "وكان أصم شديد الصمم لا يكاد يسمع شيئًا البتة، إنما كنت أخاطبه بالكَتْب فيجيبني إلا في قليل فقد يفهم بالعين والإشارة".
(٢) وصف ابن الزبير مجلسه الوعظي فقال: "نبيل المنزع في وعظه، يفتتح مجالسه بالتفسير بعد الخطب، ويوسط بذكر شيء من أخبار الصالحين، وبعض فصول من كلام ابن الجوزي، ويختم بفصل من السير، هكذا أبدًا لا يخرج عن عادته فيه، مع إحراز التناسب والالتئام في الأغراض الثلاثة، وتفسيره في مجالسه على التوالي يبدأ اليوم من حيث انتهى أمس، ولا يغيب يومًا إلا لعارض، وكلامه في ذلك كله منتقى مستوفى يشهد بحسن اختياره وتقدمه في فنه ولم يكن عنده كتاب يستعين به على كل ما كان بسبيله فيما اطلعت عليه من حالة، سوى خطب من كلام شيخه أبي الفرج ابن الجوزي في سفر بخطه، مع تأليف له سماه: مصباح الواعظ، ذكر فيه من وعظ من الصدر الأول، وما ينبغي للواعظ ويلزمه إلى ما يلائم هذا مختصرًا جدًا، وقفت على هذا التفسير بجملته باستعارته منه". ثم أشار بعد هذا إلى "حرص كان فيه في باب التكسب بتحرفه الوعظي نفر عنه بعض أصحابنا".

<<  <  ج: ص:  >  >>