كان مَسكَنُه منها قُرْبَ المقبُرةِ المنسوبة إليه، وبداخِلها مسجدُه المشهور به، وهو قريبُ الفقيه أبي صالح أيّوبَ بن سُليمانَ بن صَالح بن السَّمح أخي طالوتَ وخالُ الفقيه محمد بن عيسى الأَعشى. له رحلةٌ إلى المشرِق رَوى فيها عن مالكِ بن أنَس ونُظَرائه، وعاد إلى الأندَلُس، وكان بمحَلٍّ سَنِيّ من الدِّين والعلم، فقيهًا فاضلًا حافظًا، ثمُ كان أشدَّ من خالَفَ على الحَكَم بن هشامِ معَ أهل الرَّبَض، ولمّا ظَفِرَ الحَكَمُ بأهل الرَّبَض وأوقَع بهم الوقيعةَ الشَّنعاء فرَّ طالوتُ هذا، وكان مسكَنُه بالمدينة مُجاوِرَ المسجدِ والحُفْرة المنسوبَيْنِ إليه، ولَجأ إلى رجُل من اليهود فاختفَى عندَه عامًا كاملًا حتى مَلَّ المقامَ عندَه وسكَنَتِ الأحوال وذَهبتِ النائرةُ، فخرَجَ إلى أبي البَسّام أحدِ وُزراءِ الحَكَم، وكانت بينَهما صُحبة، وهو جَدُّ بني بَسّام الهَمْدانيّ، ووَصَلَ إليه بينَ العشاءَيْن؛ فلمّا وصَلَ إليه قال له: أين كنت؟ قال: عند رجُل من اليهود، [٤٣ أ] فأنَّسَه وسكَّنَه وقال له: الأميرُ نادمٌ على ما كان منه. وباتَ عندَه، فلمّا أصبَحَ أبو البَسّام قَصَدَ القَصْرَ بعدَ أن وَكَّل على طالوتَ من يَحرُسه، فلمّا وَصَلَ إلى الحَكَم قال له: ما تقولُ في كَبْش مُسمَّن لم يُفارِقْ مِزوَدَه عامًا كاملًا؟ فقال له الحَكَم: اللَّحمُ المُشبَّع لا يَطيب، والصَّحريُّ (١) أخَفُّ منه وأعذَب، فقال: غيرَ هذا أريد، طالوتُ عندي، قال له الحَكَم: وكيف ظَفِرتَ به؟ قال له: أتى عليه لُطفي، وفي ثِقافي، وقد أتتْ حِيَلي عليه، فأمَرَه بإحضارِه ووُضِعَ لهُ كُرْسِيّ، ومُضِيَ بالشّيخ وهُو يُزعَجُ إزعاجًا شديدًا، فلمّا مَثُلَ بينَ يدَيْه قال له: يَا طالوت، لو أنّ أَبَاك مالِكُ هذا القَصْر أكان يزيدُك في البِرِّ والإكرام على ما كنتُ أفعَلُه معك؟ هل أورَدتَ عليّ قطُّ حاجةً لنفسِك أو لغيرِك إلا سارعتُ إلى إسعافِك فيها؟ ألم أَعُدْكَ في عِلّتِك مرّات؟ ألم تتَوَفَّ زوجُك فقصدتُك إلى دارِك ومشَيْتُ في جَنازتِها راجلًا منها إلى الرَّبَض ثُم انصَرفْتُ معَك راجلًا حتى أدخلتُك منزِلَك؟ فما بلَغَ بي عندَك أنْ لم تَرْضَ إلا سَفْكَ دمي وهَتْكَ سَتري وإباحةَ عَوْرتي؟ قال له طالوتُ: ما أجدُ لي في هذا