ثم جاء بعد هذا الوصف وصف آخر يحمل خصيصة دامغة لهذا الطاغية في صورته النموذجيّة، ومعه قرينه الذي لا يفارقه، فكانا في تمثيل نموذج الإفساد في الأرض كأنهما غصنان من عوسجة الشرّ الوخيم، يرتبطان بما قدّمته الأولى من وصفَيْ المهانة والمبالغة في كثرة الحلف ارتباط الفرع بالأصل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)} والهمّاز هو العيّاب الذي يتسقط العيوب فيلصمها بالبرآء، ويتلقطها من أفواه الشرّيرين ليضعها على هامات الخيرين، حتى يتساووا معه في شرّيته، كما قال تعالى في وصف طبيعة هؤلاء الباغين للناس التورّط في حمأة الشر والفساد معهم، حتى تعالوا في سوء أطماعهم أن يتناولوا الشمس بأيديهم ليطفئوا نورها بأفواههم، فعتوا عتوًّا كبيراً، وودّوا لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالأهم ليمالئوه، وداهنهم فيداهنوه، بعد أن دمغهم بتكذيب الأنبياء والمرسلين: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)}.
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودّوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودُّوا لو تُرخَّص لهم فيرخَّصون لك، وقال الفراء وغيره: لو تلين فيلينون لك، والآدّهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين!
وقال مجاهد: المعنى ودّوا لو ركَنْت إليهم وتركت الحق فيمالئونك، وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون، وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، ونقل القرطبي اثني عشر قولاً! (١)
وقد أخبر الله تعالى في سورة نزلت برسم هؤلاء المفسدين العيّابين،
(١) تفسير القرطبي: ٨: ٢٣٠، وانظر: تفسير الشوكاني: ٥: ٢٦٨.