سبق أن عرفنا عاليّة الدعوة الإسلاميّة .. وأن منافذ تبليغ الرسالة بمكة قد سدّت بعد وفاة خديجة وأبي طالب، وأن الجوّ قد خلا لأحلاس الشرك، وفجّار الوثنيّة في مكة التي أظلمت فجاجها أمام الدعوة إلى الله تعالى، وضاقت بمواسمها، وأسواقها، ومحافلها ومجتمعاتها، وأنديتها ومضارب القبائل في بطحائها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (١).
ومن ثم لم يجد فيها متنفّساً لدعوته، ولا منتجعاً لتبليغ رسالته؛ لأن سفهاء قريش، ومن وراءهم من أهل العتو والطغيان، والجحود والكفران طمعوا فيما لم يكونوا يطمعون فيه، وأبو طالب على قيد الحياة -كما عرفنا!
وكان لابدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السير قدماً في القيام بنشر دعوته، وتبليغ رسالة ربّه، وأرض الله واسعة .. وهي بجميع أرجائها ومواطنها منازل للدّعوة إلى الحقّ والهدى، وأينما يُشرق النور فهناك الأفق الذي تطلع منه شمس الهداية، فلتذهب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ مذاهبها في الأرض، حيث يتاح لها، ولتفارق مكة إلى عودة ظافرة، تطهّرها من أرجاس الفجور في أشباح البأو العنيد، والاستكبار البليد!
والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حدود أقصى استطاعته، وأبلغ مدى طاقته يدأب في تبليغ وحي الله تعالى إلى عباد الله، لا يني، ولا يتوقّف، فإذا سدّت منافذ التبليغ في جانب من الأرض بقيت سائر الجوانب والواطن مهْيَعاً يجب سلوكه!
فمكّة بمن فيها من العتاة الطغاة البغاة العاندين، والفجّار المستكبرين وما
(١) محمَّد رسول - صلى الله عليه وسلم -: ٢: ٣١٩، وما بعدها بتصرف.