وفي نفوس المؤمنين قوى تتفاعل مكتومة مكبوتة، يراها رسول - صلى الله عليه وسلم -، ويرى آثارها مرسومةً على وجوه أصحابه، وهم من الشباب المفعم حماسةً وقوةً وحركةً، وتحفّزاً لردّ الاعتداء، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن له بالمقاومة وردّ الاعتداء بالقتال، فكان من أحكم التدبير، وحكمة السياسة أن يفتح - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه باب الهجرة، حتى يجدوا لأنفسهم متنفّساً في حركاتهم وهم آمنون على أنفسهم، يعبدون ربّهم وهم مطمئنّون، لا يهيجهم أمر، ولا يفزعهم شيء!
[سفارة المشركين إلى النجاشي]
وقد عزّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم (١)، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إِن نفراً من بني عمّنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنّا وعن ملّتنا، قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك، فابعث إِليهم، فبعث إِليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلّم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إِنا لا نسجد إِلا لله عَزَّ وَجَلَّ، قال: وما ذاك؟ قال: إِن الله بعث إِلينا رسولاً، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إِلا لله عَزَّ وَجَلَّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإِنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إِلى العذراء البتول، التي لم يمسّها بشر، ولم يفرضها ولد، قال: فرفع عوداً من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسّيسين والرهبان، والله! ما يزيدون على الذي نقول: ما سوى هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه
(١) الهجرة النبويّة ودورها في بناء المجتمع الإِسلامي ٩٢ ط ثانية.