ولا شك أن البعد عن الناس وحركاتهم في تقلباتهم لطلب مصالحهم ومعاشهم أجمع للفكر وخواطر القلب، وأبلغ من عمق التفكر والتأمل، وأقرب إلى التهدي!
ثانياً: إن هذا الغار يقع في موقع يبصر منه المعتكف فيه بيت الله المحرّم (الكعبة المشرّفة)، والنظر إلى البيت الحرام عبادة، تذكر بأعظم متعبّد بقي على تقلبات الحياة وصروفها، وقد طاول الزمن وغالبه، فاستطال عليه وغلبه؛ لأنه الأثر الثابت تاريخيًّا من تراث أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما جدّا محمد - صلى الله عليه وسلم - الأعليان، إليهما يرتفع نسبه الشريف المحقق!
وقد بقي التعبد بتعظيم هذا البيت، والطواف حوله سنة متبعة من سنن الرسالات الإلهية التي أحيت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - معالمها الأصيلة، فجعلت من الطواف حول هذا البيت وتعظيمه أحد أركانها، وشرعة في منهاج تعبداتها!
وبالتأمل فيما ذكرنا يتبين أن الخلاء في غار حراء يجمع ثلاث عبادات، كانت كلها محققة ومقصودة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خلائه به:
الأولى: الخلوة التامة!
الثانية: التحنّث!
الثالثة: النظر إلى بيت الله الحرام!
٨ - التحنّث:
قال الكرماني (١): التحنّث -بالحاء المهملة والنون ثم الثاء المثلثة: التعبّد،