سافرت به أمه لتزور قبر أبيه الحبيب الثاوي هناك، وأن يتعرّف -في الوقت نفسه، إلى أخوال أبيه المقيمن بيثرب آنذاك .. وعادت الأطياف ينطق بها لسان الحال أمام القبر، وإذا العبرات تنهمر، والأرواح تتناجى على مشهد من الغلام الذي عرف قبر أبيه، وأدرك محبّته من خلال الفطرة وعبرات أمه، فكان منظراً مطبوعاً في نفسه، وهمساً مسّ قلبه ومشاعره!
وقد رسمت تلك الرحلة صوراً متتابعة كانت لها آثارها فيما بعد!
يُتم يلاحقه يتم:
وأقامت آمنة بدار بني النجار ما طابت لها الإقامة، ولم تُرد الاستمرار بعيدة عن بني هاشم، وعن عبد المطلب، فكان لابدّ من العودة، ومن ثم أخذت في السير إلى مكة، وهنا أدركها الموت بـ (الأبواء)! وشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في هذه السنن وفاة أمه كما شهد دفنها!
وإذا كان قد فقد أباه من قبل، فقد كان ذلك وهو في الغيب المكنون، وقد عوضه جده عطف الأب!
أما الأم فقد فقدها وهو في وعي، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وبعد أن عرف أنه لا شيء يعوّض عطف الأمّ الرؤوم، وهو فوق ذلك حرمان من شيء موجود شعر به، وأصابته له لوعة، علّمته الصبر وعوده أخضر!
وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت في حال الغربة لكل منهما، وليس لهما إلا الصحراء، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وألم الفقد، وألم الانقطاع، وصار الركب في رعاية الله، ليحسّ مع الصبر واحتمال الآلام كريم الرعاية الإلهيّة، والعناية الربانيّة، ويكون له من هذا زاد