ولم يعرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شمائل أبيه وأخلاقه وعاداته ووسائله في عيشه إلا ما حدّثته به أمّه عنه في طفوليته، وهي كسيرة القلب، حزينة الفؤاد، لفراق ذلك الزوج الحبيب والأب الكريم!
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أن عقل هذا الحديث وتصور منه صورة أبيه، كان قد أخذ سمتاً في الحياة لا تغيّره الأحاديث، ولا تؤثّر فيه الصور الذهنيّة المركبة من مجموعة قصص عمن كان وما كان، إلا كما يؤثر بريق التاريخ اللامع في توجيه أمّة تكنفها عناصر الحياة بدوافعها الحيّة المتدفقة، وأي أثر لهذا البريق غير الإعجاب بالماضي الذي ذهب ولن يعود؟!
[عاطفة الأمومة]
ولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتيماً -كما أسلفنا- ولم يستشعر عطف الأبوّة يفيض به قلب والد فطره الله على لون من الحنان، لم يعطه الله غير قلوب الوالدين، وللطفولة إلهام تقرأ آياته في نظراتها الحالمة، وبسماتها الساهمة، وفي هذا الإلهام ضرب من الإدراك الخافت الذي يلمس به الطفل حنان الأبوّة وعطفها، فترسم على فمه بسمة صادقة، وعلى عينيه نظرة صافية صفاء الفطرة الخالية من الرسوم والأصداء!
ولقد ارتسمت على فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - البسمة الصادقة، وطافته بعينيه تلك النظرة الشافعية، ونظرت إليه أمّه آمنة بنت وهب -وكانت قريبة عهد بفراق زوجها الحبيب- فجدّد نظرها إليه في نفسها حزناً مبرحاً وألماً عظيماً، فرأت على ثغره ابتسامة متوهّجة، وأبصرت في عينيه تطلعاً إلى السماء، ولعل خيالها المصور أسعفها فأراها في وجه وليدها المحبوب وجه والده الحبيب، وتنازعتها عاطفتان: