وهنا نجد أنفسنا أمام ميلادين: ميلاد بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وميلاد رسالته، ونبصر هذا حين نتصور الجو الذي بدأت فيه نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأشرقت في أفقه رسالته (١)، بكل ما حوى من بيئة على حالها التي كانت عليها من طبيعة جبليّة صحراوية جافة قاسية، يعيش فيها مجتمع بشري بأخلاقه وعاداته، وجهالاته، وبؤس عيشه، وضيق الحياة في وجهه، وتمزق وشائجه الاجتماعيّة، وتفاهة تفكيره، وبلادة حسّه، وجمود مشاعره العقليّة، وانغماسه في حمأة وثنيّات مزرية .. وانصرافه عن النظر في العلم والمعرفة، وإخلاده إلى الأرض، يتعبد لأحجارها، ويهيم في جنبات وديانها ومفاوزها، ويتوثّب ذرا جبالها تطلعاً إلى أقصى آماله، وأعظم أمانيه، إلى نبع ماء أو منبت كلأ، لا يجاوز نظره مواطئ أقدامه، ولا يحس بأحداث الحياة بعيدة عن أرضه ومضارب خيامه، ولا يشعر بتقلبات التطور في الأمم والشعوب من حوله .. تشغله الحروب الداخليّة المتواصلة، تسفك فيها الدماء، وتنهب الأموال، وترمل النساء سبايا، وتيتم الأطفال حيارى .. وتتفانى القبائل، وتعيش فيها بقية السيف متربصة للآثار، ويفقد الأمن مع فقد الاستقرار!
هذا الجو هو الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أربعين سنة من بعثته نبيًّا ورسولاً، من أبوين في أعز أرومة قرشيّة، بكل ما لهذا الجو من خصائص طبيعيّة واجتماعية وفكريّة وخلقيّة في جماعاته وأفراده، في مجموعه وجميعه!
هذا الجو الذي يضطرب في رقّ المادة، وعبوديّة الشهوة، وسلطان
(١) انظر: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ١: ٢٣٨ وما بعدها.