تكن كثيفة الحجاب، تمنع المتسمّع من السمع، وتحجب الناظر من اللمح، وتحول دون المترقب أن يعرف، وكانوا يسمعون إلى قراءته في جوف الليل، إذا قام لصلاة التهجّد، فلما اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يقم لصلاته ليلتين أو ثلاثًا، وفقد جيران السوء صوته - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة في هذه الفترة ظنّوا به ظنّ السوء، وتقوّلوا عليه بالبهتان ما تقوّلوا من الشماتة والطعن، فأنزل الله عليه سورة {وَالضُّحَى} تنافح عنه، تلطفًا به، وتثبيتاً لفؤاده، ورداً لتقوّلات أعدائه وشانئيه، وتحريكًا لعوامل الشوق والتشوّف إلى مثل ما عهد وسمع وذاق من حلاوة الانّصال بالملأ الأعلى من طريق الوحي!
ومعلوم أن سورة {وَالضُّحَى} نزلت بسبب فترة الوحي أيّامًا قلائل، لأمر عرض لرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتحدّث بذلك المشركون حديث الشامت العائب المعيِّر .. فتداركه الله -عزّ وجل- بلطفه وتثبيته وتكذيب أعدائه وشانئيه، وتطمين المؤمنين بهديه ورسالته بهذه السورة الكريمة -كما عرفنا- التي تجبه المفترين بنفي ما زعموه، وتعدّد نعم الله الخاصة على نبيّه وحبيبه، وتبشّره بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يزداد شرفًا في رفعة قدره، وفضلًا في علوّ شأنه، وأن مستقبل أمره أجلّ قدرًا وشرفًا من حاضره وماضيه، وأن إنعام الله عليه في نهاياته أعظم من إنعامه عليه في بداياته، وأن الحفاوة به في مدارج رسالته، ومصاعد حياته خيرٌ له من مطالع اصطفائه - صلى الله عليه وسلم -!
[٢٠ - بناء صرح الرسالة الخالدة]
وبين طرفي مكة من الشمال إلى اليمين على قيد خطوات من (غار حراء) - على نحو فرسخين من شمال مكة على طريق الذاهب منها إلى منى إلى (غار