-كما أسلفنا- ومن ثم حين رأوه تهلّلوا بالبشر الوثيق، واطمأنت قلوبهم الواجفة في صدورهم، وسكنت إلا من خفقة الرضا، وقالوا بلسان موحّد الثقة والقبول: هذا (الأمين) رضيناه حكمًا!
[١٥ - فراسة الإلهام]
وقد كانت أمّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - لوثيق معرفتها بأخلاق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الفطريّة التي خبرتها فيه بتجاربها وفراستها، وبما كان يخصّه به مجتمعه من الإكبار وحُسْن الأحدوثة على حق حين أقسمت على أن الله لن يخزيه، وأكَّدت ذلك بلفظ التأييد، واستدلَّت بوحي عقلها الرصين على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي، فوصفته - صلى الله عليه وسلم - بأصول مكارم الأخلاق!
وكانت تلك الكلمات -كما عرفنا- نوعًا من فراسة الإلهام الذي ينظر إلى ما وراء الحجب، خفّفت بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شعر به من آثار المفاجأة الرهيبة، وقد آب إليها من خلوته ومتعبّده في حراء، فرأت منه - صلى الله عليه وسلم - حالًا من مشقّة الجهد، لم تكن تراها عليه من قبل في أوباته إليها، ليتزوّد لخلوته، ويجدّد ببيته وولده وزوجه عهد الحنان والحبّ الذي يعطيه أفضل ما يعطي عامل من عوامل القوّة النفسيّة من مدد يعينه على تحمّل مشاق الوحدة في خلوته التي أحبّها أشدّ الحبّ؛ لما يجد فيها من مجال لسبحات روحه وفكره في أجواز ملكوت الله، وجلال بدائع صنعه، وجلس إليها بعد أن هدأت نفسه، وحدّثها وحدّثته، وسمعت منه جديدًا، لم تكن من قبل تسمعه منه، وكان في هذا الحديث نغم هامسٌ بروحانيّة جديدة، تتلمّس دفء الحنان في أحضان الوفاء!