الميزان الأعلى في شرعة الحياة، ولا فرق بين أن يكون هذا الميزان منصوباً على حشائش الأحراش والأدغال وعلى أبواب الكهوف والغيران، أو موضوعاً على بساط من سندس الحضارة الزائفة الملوثة بدماء الضعفاء, وهذا هو المنبع الذي نبعت منه المذاهب الماديّة الملحدة منذ قامت الحياة!
وهنا يأتي دورآخر للرسالات الإلهيّة، هو دور إيقاظ (العقل) من ظهور سطوة الغرائز، وإفساح المجال أمامه لتنظيم رغائبها، في صورة تخضعها لموازين الأخلاق، وإعطاء الفضائل قيمتها في الحياة، ووضع الرذائل في مواضعها منها، حتى تقاس كل فضيلة أو رذيلة في أعمال الأفراد والجماعات بمقياسها العادل الذي لا يعرف الغش والخداع!
[٩ - الدور الأول للرسالات]
وتاسع ما يطالعنا: أن الدور الأول للرسالات الإلهيّة دور قيادة وتعليم، ومجالها في هذا الدور هو الحقائق الكليّة، والمعارف العليا، فهي التي تنبئ عن الغيب، وتكشف عن حقائق كليّة في صور واقعيّة، وأمثال تقربها إلى الواقع المشهود، حتى تكون دانية إلى مجال (العقل) ومدركاته، وهي التي تتحدّث عن الخالق ونعوت كماله، وعن فيض الحياة من خزائن رحمته، وعن عوالم السماء والأرواح، وعن الوحي والنبوة، وعن نظام الكون وقوانين ترابطه، وعن الحياة الأخرى وما فيها من ثواب وعقاب!
ولا سبيل لـ (العقل) وحده إلى إدراك هذه الحقائق إدراكاً يتجاوب صداه مع الواقع الغيبي في هذا المجال؛ لأن الغيب محجوب عن الحس، والحس بأدواته المادية هو المشكاة التي يستضيء بمصباحها (العقل)، فيهتدي إلى