وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على معالم الطريق إلى النبوة .. وهي تزداد إيحاء ووضوحاً، وعرفنا كيف أعطى الانسلاخ الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّة القدرة العمليّة على الرفض لكل ممارسات الجاهليّين الباطلة، وكيف كان البعد الروحي والإمداد النفسي باتجاه الاندماج والاتصال، ومواجهة رفض الجاهلية وقياداتها وأعرافها وسلطاتها، بمثابة إرهاص حيّ حركيّ، فكريّ عمليّ، إلى أن هذه الشخصية التي ربتها عناية الله في مدى أربعين سنة قد غدت على استعداد تام للتلقي!
ونبصر خلوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ونبصر انعزاله عن مجرى الحياة المكية الصاخب، وهو يقترب من الأربعين .. حيث أعده الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين، ليخرج الناس من ظلمات الجاهليّة ودنسها إلى نور الإِسلام ونقائه، فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازاً أسوارها الجبليّة، منقلاً خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية حتى تحجب به حياة الجاهليّة، وتستقبله شعاب مكة، وبطون أوديتها، ثم يلج بعيداً إلى (جبل النور)، حيث ينتهي به المطاف إلى (غار حراء)، فيمكث فيه ما شاء الله أن يمكث!
واستغرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تفكير عميق، كان يشغله أمداً طويلاً .. تفكير عميق في أحوال قومه، وفي أوضاعهم، وفي الكون والحياة، ومصير الإنسان، والموت وما بعد الموت، وفيما شاكل ذلك من أمور تطوف برأس المفكر المتبصر في هذه الحياة فتصرفه إلى النظر فيها، وتبعده عن التفكير في غيرها، مما يكون في هذه السن على المعتاد! إنه يريد الوصول إلى الحقيقة!