عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع .. ويقضى الأمر، وينتهي الحوار: {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)}! سؤال تقريع ورد قصير! الجريمة ظاهرة، والجاني معترف، فإلى الجحيم!
وسرعة المشهد مقصودة، فالمواجهة حاسمة، ولا مجال للأخذ والرد، لقد كانوا ينكرون، فالآن يعترفون، والآن يذوقون!
توجيه ربّانيّ:
وعلى هذا المشهد الحاسم في مصير الذين كفروا، وعلى مشهد الإيمان من أبناء عالم آخر ... يجيء الإيقاع الأخير، توجيهاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر عليهم، ولا يستعجل لهم، فقد رأى ما ينتظرهم، وهو منهم قريب: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)}!
وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم، وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال، والمعاني والإيحاءات، والقضايا والقيم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}! توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي احتمل ما احتمل، وعانى من قومه ما عانى -كما سبق -وهو الذي نشأ يتيماً، وجرّد من الوليّ، والحامي، ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد: الأب، والأمّ، والجدّ، والعمّ، والزوجة الوفيّة رضي الله عنها .. وخلص لله ولدعوته مجرّداً من كل شاغل، كما هو مجرّد من كل سند أو ظهير .. وهو الذي لقي من قومه أشدّ ما لاقى من الأبعدين، وهو الذي خرج يستنصر القبائل والأفراد بلا نصرة،