ولما يئس ملأ قريش من استجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمطالبهم الماديّة الأرضيّة (١)، ووقف مع إيمانه برسالة نفسه عند معاقد عزّته وجميل صبره، مستمرًّا في تبليغ رسالته، قوَّاماً بأمر دعوته، لا يغتر ولا يستحسر .. لجؤوا إلى التعنّت واقتراح المطالب التي دفعهم إليها العناد والكفور، والحسد الحقود، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك، فلا تريد مالاً وثراء، ولا تريد شرفاً وسؤدداً، ولا تريد ملكاً وسلطاناً، فاسأل الله لنا أن يوسَّعَ علينا ديارنا وبلادنا، فيسيِّر عنها الجبال التي تخنقها، ويفجر فيها الأنهار والينابيع، فلم يتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موقفه في وثاقة إيمانه برسالته، وسموّ أدبه في عبوديته لربه ومعرفته بجلاله، ولا اهتزت نفسه ذرّة عن دعائم صبره ومضاء عزيمته، وأقام - صلى الله عليه وسلم - في عزم مصمّم، إذا عرضوا دنياهم في الشرف والسيادة والملك والمال والثراء، فأبى أن يقبل منهم شيئاً من أمورهم، فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا، ينزعون على ركيّ الدهش والحيرة، فأدخلوا أنفسهم على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الخاصة. وأقحموا تافهات أفكارهم على عيشه وشأنه في صورة عاطفيّة مرذولة زائفة مزوّرة .. ولم يقف الحمق وخرق الرأي وسفه التفكير بملأ الماديّة الوثنيّة عند هذا الحدّ، ولكنهم اشتطوا على أنفسهم، وركبوا شيطان الجهالة وفجور الوثنيّة، فاستنزلوا على أنفسهم سخط الله ولعناته .. وحكى القرآن الكريم عنهم أبشع من هذا فقال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)} (الأنفال).
(١) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ٢: ٢١٤ وما بعدها بتصرف.