ونستعرض التاريخ منذ بدأ يكتب ويسجّل أحداث الحياة في المجتمع البشري فنجده شغل -حتى أتخم- بالفلسفة الوضعيّة، التي هي في كثير من موضوعاتها وقضاياها حصيلة العقل الإنساني، وقد كان هذا العقل في مهد الطفولة الفكرية لا يزال يحبو، وحصيلة الهوس الخيالي الجامح في كثير من مسائلها وبحوثها التي شغلت بجدلها العقيم قسطاً كبيراً من عمر الحياة، وكانت هذه الفلسفات تعج بأوضار الوثنيات التي كانت أساساً لما يُسمّى (الفن)، ولا سيما في دائرة التصوير المجسّم والنحت!
لقد مضى على هذا العقل وهو يفكّر وينظر ويتحرك عشرات الألوف من السنين، ولكنه لم يصل إلى شيء في قضاياه التي استقل بها من شؤون الحياة والكون؛ بل إنه زادها تعقيداً وشتاتاً، ولم يستطع أن يحسم رأياً فيما شارك فيه من شؤون الحياة، ولم يقول على البت في قضايا الغيب التي جاءت النبوّات بحقائقها، إخباراً عن واقع مشهود؛ لأن النبوّات تطير إلى هذا الغيب بأجنحة الوحي والتلقّي عن الله تعالى، خالق الغيب والشهادة، والعقل تعبّد للحسّ وجعل منافذه وسيلة إلى إدراك الحقائق، والحسّ محدود الجوانب إذا تعدّاها سقط في هاوية الجحود والتشكيك!
ولو أن العقل خفّف من غلوائه، واستقام على نهج النبوّة يهتدي بهديها في موازين إدراكاته لكان له اليوم مع الحياة شأن غير شأنه الذي يعيش فيه، ويقود الحياة بزمامه، ولا يدري أحد ما تكون نهاية هذه القيادة القاصرة عن إدراك كثير من حقائق الحياة!