البطش، ليس للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسموّ معنى في نفسه!
كان هذا الجو حيوانيًّا شهوته الغلب، ماديًّا غايته الجشع، أنانيًّا شريعته الطمع، شيطانيًّا سبيله الهوى، ومآله الردى، والنالس عدا هؤلاء أوزاع شتى، بين الوان كسرى، وبلاط قيصر!
هذا الجو الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث انبثق النور في أرض مكة، فتصدع لمولده الإيوان، وتطامن لأشعته القصر، وهتف من الغيب هاتف:
اليوم ينتهي تاريخ، ويبتدئ تاريخ، ليس بعد اليوم سادة وعبيد، إنما الناس سواء، والعبادة لله، والقيادة لخاتم رسل الله، والأمر كله لله!
وبين عرش قيصر وعرش كسرى قام منبر الحق، فتضاءل لجلاله عرش، وتقوض لدعائه عرش، وانبثق النور!
هنالك بدت طوالع الوحدانيّة على الوثنيّة، والإنسانيّة على العصبيّة، وظهرت معالم ومعالم .. ووجَدت قافلة الحياة طريقها المقاصد، وأبصرت الإنسانيّة نوراً سرى في الكون، وروحاً سرت في الهيكل المنحل، والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة، حتى شعر أن له أسباباً إلى الحق رثت على طول غفلته، وأن له حياة مباركة طيبة، خيراً من هذه الحياة استسر علمها في جهالته، فتشوف إلى الأفق البعيد، واستنار بالضوء الجديد، وأدرك بعث الحرية من قبرها، وإطلاق العقول من أسارها!