غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى .. تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها، وهذا الوجه الثالث منها!
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات، هي جانب من قضيّة كبيرة .. القضيّة المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم (قضية القضاء والقدر) أو (الجبر والاختيار) .. وقد وردت في أثناء حكايته ذلك الفريق من الناس، ثم في الردّ عليهم، وتصحيح تصوّرهم .. والقرآن يتناولها ببساطة واضحة، لا تعقيد فيها ولا غموض .. فلنعرضها كما وردت، وكما ردّ عليها القرآن الكريم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)}!
إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس، فالناس يملكون أن يتّجهوا وأن يحاولوا، ولكن تحقّق الفعل -أي فعل- لا يكون إلا بإرادة من الله وقدره؛ فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيّئة وإيقاعها بهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر منهم مخلوق مثلهم نسبة غير حقيقيّة، تدلّ على عدم فقههم شيئاً في هذا الموضوع!
إن الإنسان قد يتّجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقّق الخير، ولكن تحقّق الخير فعلاً يتمّ بإرادة الله وقدره؛ لأنه ليست هناك قدرة -غير قدرة الله- تنشئ الأشياء والأحداث، وتحقّق ما يقع في هذا الكون من وقائع، وإذن يكون تحقُّق الخير -بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتّجاه الإنسان وجهده- عملاً من أعمال القدرة الإلهيّة!
وإن الإنسان قد يتّجه إلى تحقيق السوء، أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء،