وقلنا: إن ذلك ممَّا يعقل- للزم أن يعلم - صلى الله عليه وسلم - من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام!
والقول بأنه لُبِّس عليه الحال - صلى الله عليه وسلم - للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبوديّة، وهو فناء إرادته - صلى الله عليه وسلم - في إرادة مولاه عَزَّ وَجَلَّ، حيث تمنّى إيمان الكلّ وحرصه عليه، ولم يكن مراداً لله تعالى ممّا لا ينبغي الالتفات إليه؛ لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)} (الأنعام)!
ولا شك أن التأديب به لم يُبق ولم يذر، ولم يُقرن بما فيه تسلية أصلاً، فإذا قيل -والعياذ بالله- إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه؟!
وأيضاً أيّة دلالة في الآية على (التأديب)، وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه، عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلّم أن ترتيب الإلقاء على التمنّي، مع ما في السباق والسياق مما يدلّ على التسلية عن ذلك يجدي نفعاً في هذا الباب، كما لا يخفى على ذوي الألباب!
ويرد على قوله أنه بعد حصول التأديب بما ذكر، كان يُرسَل من بين يديه ومن خلفه رصدٌ يحفظونه من إلقاء الشيطان، أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك، بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات، فقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧)} (الجن)!