وسبق أن عرفنا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار اللبن، وأعرض عن الخمر، وذلك في الحديث الأوّل الذي رواه مسلم عن ثابت عن أنس، وفيه:
"فجاءني جبريل -عليه السلام- بإِناء من خمر، وإِناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة".
ونبصر في هذا ترفعاً عن الحرام، وبعداً وإعراضاً، واختياراً للفطرة .. هذا مشهد!
ومشهد ثان نبصره فيما رواه أحمد، قال: حدّثنا أبو عمر الضرير، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتَتْ عليَّ رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيّبة؟! فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بيْنَا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إِذ سقطت المدرَى من يدها، فقالت: بسم الله! فقالت لها ابنةُ فرعون: أبي؟ قالت: لا, ولكن ربِّي وربّ أبيك الله، قالت: أُخْبره بذلك! قالت: نعم، فأخبرتْه فدعاها، فقال: يا فلانة، وإِنّ لك ربًّا غيري؟ قالت: نعم، ربّي وربّك الله، فأمَرَ ببقرةٍ من نحاس فأُحمِيَت، ثم أمر بها أن تُلْقَى هي وأولادها فيها، قالت له: إِنّ لي إِليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحبُّ أن تجمع عظامي وعظامَ ولدي في ثوب واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأَمَرَ بأولادها فأُلقوا بين يديها، واحداً واحداً، إِلى أن انْتَهَى ذلك إِلى صبِيٍّ لها مُرْضَعٍ، كأنّها تقاعست من أجله، قال: يا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فإِن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقْتَحَمَت".