منظرها، أكنافُها الجبال، ومسارحها الوديان، لا صناعة تشذِّب من مظاهرها، ولا زراعة ترفِّه من جوّها، وكل الأمل المرجوّ منها مرعى تجود به الطبيعة، لتحيا عليه قطعان من إبل وشاء، عليها قوام تلك البيئة القاسية!
وقد اشتهر ذلك عن الجزيرة العربيّة، حتى عرفه جيرانهم من الفرس والرومان، فزهدوا فيها مع طغيان روح الاستغلال الاستعماري في الدولتين!
هذه الخصائص الطبيعيّة كانت خلاصة ما انتهت إليه الأحداث الضخمة، والحوادث الهائلة، التي انتابت الجزيرة العربيّة في مدى الأحقاب المتوغّلة في مجاهد التاريخ, تجمعت من أرجائها كلها، وتلاقت في شمالها من أرض الحجاز، فكانت -فوق أنها خصائص الجزيرة منذ بدأ انسياح القبائل الجنوبيّة إلى الشمال طلباً للعيش عقب انهيار سد مأرب وتخريب عمران اليمن- هي في الوقت ذاته خصائص بلاد الحجاز منذ عرفها التاريخ!
أما (مكة المكرمة) بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيئته اللصيقة به، فسمّها قرية أو مدينة أو ما شئت من أسماء الأمكنة التي كانت موئلاً لاستقرار قبيل من الناس، يضطربون فيه طلباً لوسائل الحياة والعيش، فيتسع لهم ويعطيهم ما تسمح به طبيعته، ويظهر أن أمر هذه التسمية يرجع إلى العرف ومصطلح الناس، وقد يختلف باختلاف الأزمنة والعصور، والقرآن الكريم أطلق عليها (بلداً)، وسماها مرة (قرية)، ومرة أخرى سماها (أم القرى)، وأصول الاجتماع لا تأبى عليها اسم (المدينة)!
ومهما يكن من أمر ذلك كله، فإنها منذ كانت عاصمة الحجاز من غير منازعة ولا مزاحمة، وإطلاق اسم المدينة عليها أقرب إلى تسمية القرآن لها (أم القرى) وأدنى ما عُرف لها من مكانة واحترام قبل البعثة المحمدية، وأشبه ما صارت إليه في الإسلام من منزلة دينيّة واجتماعيّة!