الحياة العربيّة .. بمارسات شتى لا يحصيها العد .. كانت تجري على مسرح الجزيرة العربيّة، ومثلتها مكة ليل نهار .. ويغدو من تعاقبها وتكرارها أن تصبح إلفاً وعادة، ثم تتجاوز هذا إلى أن تصبح مفاخر ومكرمات، يتبارى العرب في الإتيان بالمزيد منها!
والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعيد عن هذا كله، منسلخ منه، خارج عليه، ولقد منحه موقفه النبيل هذا -كما أسلفنا- نظافة وطهراً لم يعرفهما إنسان قط، وعلمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض الحاسم للباطل في شتى صوره وأشكاله، مهما حمل هذا الباطل من تبريرات انتقلت به من كونه إثماً وفسوقاً وفجوراً إلى مرتبة الإلف والعادة، ثم إلى مصاف القيم والمفاخر والمعتقدات!
ولم يبق ثمة إلا البعد الروحي الفكري، وهو أشد الأبعاد ثقلاً وخطراً في حياة الإنسان .. والروايات التي تحدثنا عن انقطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعيداً عن صخب الباطل وضجيجه، حيناً بعد حين، إلى الصحراء وحيداً فريداً، باحثاً مفكراً، الليالي ذوات العدد، كما سنعرف في حديثنا عن أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي .. هذه الروايات تكفي لالتقاط الإشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي يجب أن نعرفها عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه!
وإذا ما كان الانسلاخ الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّة، قد أعطى القدرة العمليّة على الرفض الحاسم لكل ممارسات الجاهليّن الباطلة، فإن البعد الروحي قد أعطى امتداداً نفسيًّا متمماً لا يمكن أن يؤدي دوره الحاسم الكبير بدونه!
إنه امتداد باتجاه الاندماج والاتصال، بمواجهة رفض الجاهليّة وقيادتها وأعرافها وسلطانها .. اندماج بالكون على انفساحه بالعالم الجديد الذي جاء