قال: ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه، فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاءه به مع عدم المعاينة؟!
قال: والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قُضي بإيصاله إلى الخلق أن يقدمه ترشيح وتأسيس، فكان ما يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرؤيا الصادقة، ومحبة الخلوة، والتعبد، من ذلك، فلما فجئه الملك فجئه بغتة أمر خالف العادة والمألوف، فنفر طبعه البشري منه، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه، حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له، فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة، وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة، لمعرفتها بصدقه، ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به!
ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي، ليتدرج فيه، ويمرن عليه، فشق عليه فتوره؛ إذ لم يكن خوطب عن الله بعد إنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمراً بدئ به، ثم لم يرد استفهامه، فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح!
قال: ومثال ما وقع له في أول ما خوطب به ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول: (الحمد لله) فلم يتحقق أنه يقرأ، حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ!