ترى، ما تلك الوجوه الحريّة بالإنفاق؟ والتي إذا لم نبذل المال فيها كان ذلك وصمة لنا بإحدى الرذيلتين؟ وإذا بذلنا المال فيها، كان ذلك طهراً لنا من الدنسين جميعاً، وشفاءً لنا من الدائنين كليهما، في دفعة واحدة؟ يجيب المتطرفّون من أهل الأثرة والأنانية: نفسك .. نفسك .. ومن ورائك الطوفان!
ويجيبنا المتطرّفون من أهل الإيثار والغيريّة: احرق شمعتك .. احرق شمعتك لتضيء للناس، وأهلك نفسك ليحيا الناس!
أما القرآن الكريم، فإنه يجيبنا بحكمته الجامعة:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص: ٧٧)!
نعم، إنها الموازنة، تراعى فيها الحقوق كلها، وتؤذى فيها الواجبات جميعها .. إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً!
يروي البخاري وغيره عن أبي جحيفة عن أبيه قال:
آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإِني صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل! فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: ثم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن: فصليّا، فقال له سلمان: إِن لربّك عليك حقاً! ولنفسك عليك حقاً! ولأهلك عليك حقاً! فأعط