ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق، ممكناً له في الأرض، ميسَّرة له الأسباب:
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)} وما قيل عن مغرب الشمس يُقال عن مطلعها، فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي، والقرآن لم يحدّد المكان. ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذين وجدهم ذو القرنين هناك:
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠)} أي أنها أرض مكشوفة، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات ولا أشجار، فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر .. وهذا الوصف ينطبق على الصحاري والسهوب الواسعة، فهو لا يحدّد مكاناً بعينه، وكل ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق، حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة، وقد يكون ذلك على شاطئ إفريقيا الشرقي، وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله:{لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أنهم قوم عراة الأجسام لم نجعل لهم ستراً من الشمس!
ولقد أعلن ذو القرنين من قبل دستوره في الحكم، فلم يتكرّر بيانه هنا، ولا تصرّفه في رحلة المشرق، لأنه معروف من قبل، وقد علم الله كل ما لديه من أفكار واتجاهات!
ونبصر ظاهرة التناسق الفني في العرض .. فإن المشهد الذي يعرضه السياق مشهد مكشوف في الطبيعة: الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر، وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله .. وهكذا يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي القرنين على طريقة التنسيق القرآني الدقيقة!