للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً … وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدًا

فيكون التَّشبيه واقعًا في حبس النَّفس بالمحبَّة، والجهة الجامعة حبس النَّفس مطلقًا فأينما وُجد الشُّكر وُجد الصَّبر ولا ينعكس. انتهى.

فالصَّابر يحبسُ نفسه على طاعة المنعم، والشَّاكر يحبسُ نفسه على محبَّته، وإذا تقرَّر أنَّ الأصل أنَّ المشبَّه به أعلى درجةً من المشبَّه اقتضى السِّياقُ المذكور هنا تفضيلَ الفقير الصَّابر على الغنيِّ الشَّاكر، وللنَّاس في هذه المسألة كلامٌ طويلٌ تأتي نبذةٌ منه إن شاء الله تعالى بعونه وقوَّته وكرمه في «الرِّقاق».

وما أحسن قول أحمد بنِ نصر الدَّاوديِّ: الفقرُ والغنى محنتان من اللهِ يختبرُ بهما عبادَه في الشُّكر والصَّبر كما قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] فالفقيرُ والغنيُّ متقابلان بما يعرضُ لكلٍّ منهما في فقرهِ وغِناه من العوارض فيُمدح أو يُذمُّ، وقد جمع الله تعالى لسيدنا محمَّد الحالات الثَّلاث: الفقرَ والغنى والكفافَ، فكان الأوَّل أوَّل حالاتهِ، فقامَ بواجبِ ذلك من (١) مجاهدة النَّفس، ثمَّ فُتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حدِّ الأغنياء، فقام بواجبِ ذلك من بذلهِ لمستحقِّه والمواساة به والإيثارِ مع اقتصاره منه على ما يسدُّ ضرورةَ عيالهِ، وهي صورةُ الكفاف الَّتي مات عليها، وهي حالةٌ سليمةٌ من الغنى المُطغي، والفقرِ المؤلم.

وفي مسلم من حديثِ ابن عمر رفعه: «قد أفلحَ من هُدي إلى الإسلامِ ورُزق الكفافَ وقنعَ» والكفافُ: الكفاية بلا زيادة، فمن حصل له ما يكفيه واقتنعَ به أَمِنَ من (٢) آفات الغنى والفقر، وقد رجَّح قومٌ الغنى على الفقرِ لما يتضمَّنه من القُربِ المالية.

وهذا الَّذي ذكر إنَّما هو في فضلِ الوصفين الغنى والفقر (٣) لا في أحدٍ ممَّن اتَّصف بأحدهما، والاختلافُ إنَّما هو في الأخيرِ.

نعم، النَّظر في أيِّ الحالين أفضلُ عند الله للعبدِ حتَّى يتكسَّبه ويتخلَّق به، وهل التَّقلُّل (٤) من المالِ أفضل؛ ليتفرَّغ قلبه من الشَّواغل وينالَ لذَّة المناجاةِ، ولا ينهمِك في الاكتسابِ ليستريح


(١) في (م) و (د): «عن».
(٢) «من»: ليست في (م) و (د).
(٣) في (ب) و (س): «أو الفقر».
(٤) في (م) و (د): «التقليل».

<<  <  ج: ص:  >  >>